وتأمل معي في قوله تعالى (هَاأَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ) [آل عمران:119]
فهؤلاء قوم مظهرين للمسالمة، بل يظهرون غاية المسالمة، حتى أنهم إذا لقو الذين آمنوا قال آمنا، ومع ذلك يلوم الله المؤمنين على حبهم، ولم يبح لهم حبهم بحسب ظاهرهم.
ثم تأمل معي كيف انعكست آيات البراء وبغض الكفار على أصحاب النبي –صلى الله عليه وسلم- فمن ذلك أن اسماء بنت عميس وهي ممن هاجر إلى الحبشة تقول كما في صحيح البخاري (كنا في أرض البعداء البغضاء بالحبشة) [البخاري، 4230]
فبالله عليك انظر في قول هذه الصحابية الجليلة، فأهل الحبشة مسالمون، بل نفعوا أصحاب النبي حيث وفروا لهم لجوءاً سياسياً في وقت الأزمة مع قريش، ومع ذلك تسميهم "البُغَضاء"، لماذا؟ لأن هذه الصحابية الجليلة استوعبت درس القرآن جيداً، وأن كل كافرٍ فهو قطعاً عدو لله مبغوض له مهما كان مسالماً عسكرياً.
ولما بعث نبي الله –صلى الله عليه وسلم- عبدالله بن رواحة إلى اليهود لخرص الثمار خافو أن يظلمهم فقال لهم كما عند أحمد بسند صحيح: (يا معشر اليهود أنتم أبغض الخلق إلي، وليس يحملني بغضي إياكم على أن أحيف عليكم) [أحمد: 14966]
فهؤلاء كفار مسالمون وليسو محاربين، ومع ذلك يستعلن رضي الله عنه ببغضه لهم.
وأمثال هذه النماذج كثيرة في سيرة أصحاب رسول الله من بغض الكافر حتى لو كان مسالماً، ومن الطرائف أن بعض الناس لكي يتخلص من هذا الأصل الشرعي العظيم صار يسلك استراتيجية إلصاق أحكام البراء بالوهابية، ويدعي أننا أسرى للفكر الوهابي، وأن مسألة بغض الكفار جميعاً إنما هي فكرة وهابية، الخ وهي حيلة ساذجة للتخلص من قاعدة شرعية.
والواقع أن قاعدة (البغض العقدي للكافر) قد أطبقت عليها المذاهب الأربعة لأهل السنة والجماعة وليس مسألة ابتكرتها الدرر السنية، فقد قال السرخسي الحنفي (وهكذا ينبغي لكل مسلم أن يكون في بغض اليهود) [المبسوط، للسرخسي، 23/ 11].
وتعرض القرافي المالكي لبعض الأوامر الشرعية فقال (حب المؤمنين، وبغض الكافرين، وتعظيم رب العالمين، .. وغير ذلك من المأمورات) [الفروق، للقرافي، 1/ 201]
وقال ابن الحاج المالكي أيضاً (واجب على كل مسلم أن يبغض في الله من يكفر به) [المدخل، لابن الحاج، 2/ 47]
وقال الشيخ عليش المالكي (نفوس المسلمين مجبولة على بغض الكافرين) [منح الجليل، لعليش، 3/ 150]
وفي أشهر متون الشافعية (وتحرم مودة الكافر) [الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع، للشربيني]
وقال العز بن عبدالسلام الشافعي (جنايته على أمر نفسه بالكفر أخرته، وأوجبت بغضه) [قواعد الأحكام، للعز بن عبدالسلام، 72]
بل هذا ابن سعدي الذي يحاول البعض تزوير صورته وأنه كان فقيهاً تغريبياً مبكراً يوضح رحمه الله التلازم بين الإيمان بالله وبغض الكافر فيقول (الإيمان يقتضي محبة المؤمنين وموالاتهم، وبغض الكافرين وعداوتهم) [تيسير الكريم الرحمن]
والمراد أن نصوص فقهاء المذاهب الأربعة لأهل السنة كثيرة في منع حب الكافر، فكيف يقال أن وجوب بغض الكفار فكرة ولدت في الدرعية وانتهت مع مؤتمرات حوار الأديان؟!
أم أن أئمة المذاهب الأربعة في القرون المتقدمة حفظوا في صغرهم "كشف الشبهات"؟! أم أرسلت إليهم نسخٌ من الدرر السنية؟!
أما قولهم: (إننا نقر أن الله أمر بمعاداة أعدائه كقوله تعالى (لاتتخذوا عدوي وعدوكم أولياء) لكن هذه في المعتدي وليس كل الكفار أعداء لله) فهل يقول هذا من قرأ كتاب الله؟! فكل كافر فهو عدو لله أصلاً كما قال تعالى (فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ) [البقرة:98]، وقال تعالى (إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا) [النساء:101].
وأما قولهم (أننا نقر أن الله نهى عن موالاة الكفار، لكن آيات النهي عن موالاة الكفار لايلزم منها النهي عن حبهم والأمر ببغضهم، لأن الموالاة فيها قدر زائد على مجرد الحب والبغض وهي "النصرة") فالجواب أن "الموالاة" لفظ عام يشمل الحب والنصرة، فالحب موالاة، والنصرة موالاة، والنهي عن العام يشمل جميع أفراده.
¥