ـ[عبدالرحمن الفقيه]ــــــــ[23 - 05 - 04, 09:55 ص]ـ
قال ابن القيم في زاد المعاد
فإذا قلنا: لم يكن مِن هديه المداومةُ على القنوت في الفجر، ولا الجهرُ بالبسملة، لم يدلَّ ذلك على كراهية غيره، ولا أنه بدعة، ولكن هديُه أكملُ الهدي وأفضلُه، والله المستعان.
وأما حديث أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس، عن أنس قال: ما زالَ رسولُ الله يقنت في الفجر حتى فارق الدنيا وهو في «المسند» والترمذي وغيرهما، فأبو جعفر قد ضعفه أحمد وغيره. وقال ابن المديني: كان يخلط. وقال أبو زرعة: كان يهم كثيراً. وقال ابن حبان: كان ينفرد بالمناكير عن المشاهير.
وقال لي شيخنا ابن تيمية قدَّس الله روحه: وهذا الإسناد نفسه هو إسناد حديث {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَم مِنْ ظُهُورِهِمْ} (الأعراف: 172). حديث أبي بن كعب الطويل، وفيه: وكان روحُ عيسى عليه السلام من تلك الأرواح التي أخذ عليها العهدَ والميثاقَ في زمن آدم، فأَرسلَ تلك الروحَ إلى مريم عليها السلام حين انتبذت من أهلها مكاناً شرقياً، فأرسله الله في صورة بشر فتمثل لها بشراً سوياً، قال: فحملت الذي يخاطبها، فدخل مِن فيها، وهذا غلط محض، فإن الذي أرسل إليها الملك الذي قال لها {إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأِهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِياً} (مريم: 19) ولم يكن الذي خاطبها بهذا هو عيسى ابن مريم، هذا محال.
والمقصود أن أبا جعفر الرازي صاحبُ مناكير، لا يَحتج بما تفرد به أحدٌ من أهل الحديث البتة، ولو صح، لم يكن فيه دليل على هذا القنوت المعين البتة، فإنه ليس فيه أن القنوتَ هذا الدعاءُ، فإن القنوتَ يُطلق على القيام،
والسكوت، ودوام العبادة، والدعاء، والتسبيح، والخشوع، كما قال تعالى: {وَلَهُ مَنْ في السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلُّ لَهُ قَانِتُون} (الروم: 26)، وقال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّه} (الزمر: 9)، وقال تعالى: {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ القَانِتِينَ} (التحريم: 12)، وقال: «أَفْضَلُ الصَّلاةِ طُولُ القُنُوتِ». وقال زيد بن أرقم: لما نزل قوله تعالى: {وَقُومُوا للَّهِ قَانِتِينَ} (البقرة: 238) أمرنا بالسُّكُوتِ، ونُهينا عَنِ الكَلامِ. وأنس رضي الله عنه لم يقل: لم يزل يقنُت بعد الركوع رافعاً صوته «اللَّهُمَّ اهدني فيمن هديت ... » إلى آخره ويؤمِّن من خلفه، ولا ريب أن قوله: ربَّنا ولكَ الحمدُ، مِلءَ السماواتِ، وَمِلءَ الأرضِ، ومِلءَ ما شئت من شيء بعدُ، أهلَ الثناء والمجد، أحقُّ ما قال العبدُ ... إلى آخر الدعاء والثناء الذي كان يقوله، قنوتٌ، وتطويلُ هذا الركن قنوتٌ، وتطويلُ القراءة قنوت، وهذا الدعاءُ المعيَّن قنوت، فمن أين لكم أن أنساً إِنما أراد هذا الدعاء المعين دون سائر أقسام القنوت؟!
ولا يقال: تخصيصُه القنوتَ بالفجر دونَ غيرها مِن الصلواتِ دليل على إرادة الدعاء المعين، إذ سائر ما ذكرتم من أقسام القنوت مشترَك بين الفجر وغيرها، وأنس خصَّ الفجر دون سائر الصلوات بالقنوت، ولا يمكن أن يُقال: إنه الدعاء على الكفار، ولا الدعاء للسمتضعفين من المؤمنين، لأن أنساً قد أخبر أنه كان قنت شهراً ثم تركَه، فتعيَّن أن يكون هذا الدعاء الذي داوم عليه هو القنوتَ المعروف، وقد قنت أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، والبراء بن عازب، وأبو هريرة، وعبد الله بن عباس، وأبو موسى الأشعري، وأنس بن مالك وغيرهم.
والجواب من وجوه.
أحدُها: أن أنساً قد أخبر أنه كان يقنُت في الفجر والمغرب كما ذكره البخاري، فلم يخصص القنوت بالفجر، وكذلك ذكر البراء بن عازب سواء، فما بالُ القنوت اختص بالفجر؟!
فإن قلتم: قنوتُ المغرب منسوخ، قال لكم منازعوكم من أهل الكوفة: وكذلك قنوتُ الفجر سواء، ولا تأتون بحجة على نسخ قنوت المغرب إلا كانت دليلاً على نسخ قنوت الفجر سواء، ولا يُمكنُكم أبداً أن تُقيموا دليلاً على نسخ قنوت المغرب وإحكام قنوتِ الفجر.
فإن قلتم: قُنوتُ المغرب كان قنوتاً للنوازل، لا قنوتاً راتباً،
¥