التي تجب عليه من عبادة أو معاملة وسائر ما يحدث له فيقول لمن يسأله: علمني أصح ما ثبت في ذلك من الأدلة حتى أعمل به. وليس هذا من التقليد في شيء، لأنه لم يسأله عن رأيه، بل عن روايته، ولكنه لما كان لجهله لا يفطن ألفاظ الكتاب والسنة، وجب عليه أن يسأل من يفطن ذلك، فهو عامل بالكتاب والسنة بواسطة المسؤل.
ومن أحرز ما قدمنا من العلوم عمل بها بلا واسطة في التفهيم، وهذا يقال له مجتهد والعامي المعتمد على السؤال ليس بمقلد، ولا مجتهد بل عامل بدليل بواسطة مجتهد يفهمه معانيه، وقد كان غالب السلف من الصحابة والتابعين وتابعيهم الذين هم خير القرون من هذه الطبقة، ولا ريب أن العلماء بالنسبة إلى غير العلماء أقل قليل، فمن قال: إنه لا واسطة بين المقلد والمجتهد. قلنا له: قد كان غالب السلف الصالح ليسوا بمقلدين ولا مجتهدين، أما كونهم ليسوا بمقلدين فلأنه لم يسمع عن أحد من مقصري الصحابة أنه قلد عالما من علماء الصحابة المشاهير بل كان جميع المقصرين منهم يستروون علمائهم نصوص الأدلة، ويعملون بها، وكذلك من بعدهم من التابعين، وتابعيهم. ومَن قال: إن جميع الصحابة مجتهدون، وجميع التابعين وتابعيهم؛ فقد أعظم الفرية، وجاء بما لا يقبله عارف. وهذه المذاهب والتقليدات التي معناها قبول قول الغير دون حجة لم تحدث إلا بعد انقراض خير القرون ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم.
وخير الأمور السالفات على الهدى **** وشر الأمور المحدثات البدائع
وإذا لم يسع غير العالم في عصور الخلف، ما وسعه في عصور السلف؛ فلا وسع الله عليه.
المذهب الظاهري ليس وهو مذهب داود، وأتباعه فقط!
في ترجمة أبي حيان 2/ 290: قال ابن حجر كان أبو حيان يقول: محال أن يرجع عن مذهب الظاهر من علق بذهنه. انتهى.
ولقد صدق في مقاله فمذهب الظاهر هو أول الفكر آخر العمل عند من منح الإنصاف، ولم يرد على فطرته ما يغيرها عن أصلها، وليس وهو مذهب داود الظاهري وأتباعه فقط، بل هو مذهب أكابر العلماء المتقيدين بنصوص الشرع من عصر الصحابة إلى الآن، وداود واحد منهم، وإنما اشتهر عنه الجمود في مسائل وقف فيها على الظاهر حيث لا ينبغي الوقوف، وأهمل من أنواع القياس مالا ينبغي لمنصف إهماله، وبالجملة فمذهب الظاهر، وهو العمل بظاهر الكتاب والسنة بجميع الدلالات، وطرح التعويل على محض الرأي الذي لا يرجع إليهما بوجه من وجوه الدلالة، وأنت إذا أمعنت النظر في مقالات أكابر المجتهدين المشتغلين بالأدلة وجدتها من مذهب الظاهر بعينه، بل إذا رزقت الإنصاف، وعرفت العلوم الاجتهادية كما ينبغي، ونظرت في علوم الكتاب والسنة حق النظر كنت ظاهريا أي عاملا بظاهر الشرع منسوبا إليه، لا إلى داود الظاهري فإن نسبتك ونسبته إلى الظاهر متفقة وهذه النسبة هي مساوية للنسبة إلى الإيمان والإسلام وإلى خاتم الرسل عليه أفضل الصلوات التسليم، وإلى مذهب الظاهر بالمعنى الذي أوضحناه أشار ابن حزم بقوله:
وما أنا إلا ظاهري وإنني ... على ما بدا حتى يقوم دليل.
لا خير في علمِ مَنْ لا يعرف علم الحديث:
وقال 2/ 262: وقال المقري في عقوده: كان يسلك طريقا من الورع فيسمح في أشياء يحمله عليها بعده عن معرفة السنن والآثار، وانحرافه عن الحديث، وأهله بحيث كان ينهى عن النظر في كلام النووي، ويقول: هو ظاهري، ويحض على كتب الغزالي انتهى.
ومن هذه الحيثية قال في ابن تيمية ما قال [تكفيره و .. ]، وليس في علم إنسان خير إذا كان لا يعرف علم الحديث، وإن بلغ في التحقيق إلى ما ينال.
رأيه في كتاب البدر التمام
وقال 1/ 230 في ترجمة الحسين المغربي: وهو مصنف "البدر التمام شرح بلوغ المرام " وهو شرح حافل نقل ما في التلخيص من الكلام على متون الأحاديث وأسانيدها ثم إذا كان الحديث في البخاري نقل شرحه من فتح الباري وإذا كان في صحيح مسلم نقل شرحه من شرح النووي، وتارة ينقل من شرح السنن لابن رسلان، ولكنه لا ينسب هذه النقول إلى أهلها غالبا مع كونه يسوقها باللفظ، وينقل الخلافات من البحر الزخار للإمام المهدي أحمد بن يحيى، وفي بعض الأحوال من نهاية ابن رشد، ويترك التعرض للترجيح في غالب الحالات، وهو ثمرة الاجتهاد، وعلى كل حال فهو شرح مفيد.
رأيه في كتاب فصول البدائع في أصول الشرائع
وفي ترجمة محمد الفنادي 2/ 266: وهو مصنف فصول البدائع في أصول الشرائع جمع فيه المنار والبزدوي ومحصول الإمام الرازي ومختصر ابن الحاحب وغير ذلك وأقام في عمله ثلاثين سنة، وهو من أجل الكتب الأصولية، وأنفعها وأكثرها فوائد.
وقال عنه أيضا: وله منظومة في عشرين فنا أتى في كل فن بمسألة، وغير أسماء تلك الفنون بطرق الألغاز امتحانا لفضلاء دهره، ولم يقدروا على تعيين فنونها فضلا عن حل مسائلها مع أنه قال: إنه عمل ذلك في يوم! وقد حلها ابنه محمد، وكتب منظومة يتضمن الجواب على منظومة والده.
من مواقفه: ومن تصلبه في الدين وتثبته في القضاء أنه رد شهادة سلطان الروم في قضية فسأله السلطان عن سبب ذلك؟ فقال: إنك تارك للجماعة. فبنى السلطان قدام قصره جامعا، وعين لنفسه فيه موضعا، ولم يترك الجماعة بعد ذلك. فلله در هذا العالم الصادع بالحق مع ما هو فيه من التقلب في نعمة سلطانه التي سمعت بعض وصفها، ورب عالم لا يقدر على الكلمة الواحدة في الحق لمن له عليه أدنى نعمة مخافة من زوالها، بل رب عالم يمنعه رجاء العطية، ونيل الرتبة السنية عن التكلم بالحق، ولم يكن بيده إلا مجرد الأماني الأشعبية، ورحم الله هذا السلطان الذي سمع الحق فاتبع، ولم تصده سورة الملك وما هو فيه من سلطان الذي كاد يطبق الأرض عن قبول ذلك وهذا السلطان المرحوم هو السلطان بايزيد بن مراد.
¥