تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

أخرج مسلم في صحيحه في الأصول: حدثنا قتيبة بن سعيد الثقفي وأبو كامل الجحدري –وتقاربا في اللفظ وهذا حديث قتيبة– قالا حدثنا أبو عوانة عن سماك عن موسى بن طلحة عن أبيه قال: مررت مع رسول الله ? بقوم على رءوس النخل، فقال: «ما يصنع هؤلاء؟». فقالوا: يلقحونه، يجعلون الذكر في الأنثى فيلقح. فقال رسول الله ?: «ما أظن يُغني ذلك شيئاً». قال فأُخبِروا بذلك فتركوه. فأُخبر رسول الله ? بذلك، فقال: «إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه. فإني إنما ظننت ظناً. فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئاً فخذوا به، فإني لن أكذب على الله عز وجل».

قال النووي في شرحه على صحيح مسلم (15\ 116): «قال العلماء: ولم يكن هذا القول خبراً، وإنما كان ظناً كما بيّنه في هذه الروايات».

وأخرج مسلم في الشواهد:

حدثنا عبد الله بن الرومي اليمامي وعباس بن عبد العظيم العنبري وأحمد بن جعفر المعقري قالوا حدثنا النضر بن محمد (مستور) حدثنا عكرمة –وهو ابن عمار– (مدلّسٌ فيه كلام) حدثنا أبو النجاشي حدثني رافع بن خديج قال: قدم نبي الله ? المدينة وهم يأبرون النخل –يقولون يلقحون النخل– فقال: «ما تصنعون؟». قالوا كنا نصنعه. قال: «لعلكم لو لم تفعلوا كان خيراً». فتركوه فنفضت أو فنقصت. قال فذكروا ذلك له، فقال: «إنما أنا بشر. إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به. وإذا أمرتكم بشيء من رأي، فإنما أنا بشر». قال عكرمة: «أو نحو هذا» (قلت هذا دلالة على عدم حفظه). قال المعقري: «فنفضت»، ولم يشك.

قال مسلم: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد كلاهما عن الأسود بن عامر، قال أبو بكر حدثنا أسود بن عامر حدثنا حماد بن سلمة (له أوهام كثيرة): عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، وعن ثابت عن أنس: أن النبي ? مَرَّ بقوم يلقحون. فقال: «لو لم تفعلوا لصلح». قال فخرج شيصا. فمر بهم، فقال: «ما لنخلكم؟». قالوا: قلت كذا وكذا. قال: «أنتم أعلم بأمر دنياكم».

قال العلامة عبد الرحمن المعلمي في "الأنوار الكاشفة" (ص29): «عادة مسلم أن يرتب روايات الحديث بحسب قوتها: يقدم الأصح فالأصح. قوله ? في حديث طلحة "ما أظن يغني ذلك شيئاً"، إخبارٌ عن ظنه. وكذلك كان ظنه، فالخبرُ صِدقٌ قطعاً. وخطأ الظن ليس كَذِباً. وفي معناه قوله في حديث رافع "لعلكم ... ". وذلك كما أشار إليه مسلم أصح مما في رواية حماد (بن سلمة)، لأن حماداً كان يخطئ. وقوله في حديث طلحة "فإني لن أكذب على الله" فيه دليلٌ على امتناع أن يكذب على الله خطأ، لأن السياق في احتمال الخطأ. وامتناعه عمداً معلومٌ من باب أولى، بل كان معلوماً عندهم قطعاً».

يتبين من الرواية الصحيحة أن النبي ? لم يقل «أنتم أعلم بأمر دنياكم» وحاشاه أن يقول ذلك. كما بيّن النبي ? أن ذلك مجرد ظنٌّ منه. وبهذا يُعلم أن ذلك ليس نهياً أو أمراً أو سنة أو ندباً، وهذا ضابط مهم في الفقه. فقال منذ البداية «ما أظن»، ولم ينههم. ثم أكد على هذا البيان مرة أخرى حين بلغه ما بلغه، فقال: «فإني إنما ظننت ظناً فلا تؤاخذوني بالظن». فالله الذي رضي لنا الإسلام دينا إلى يوم القيامة، أعلم بأمور دنيانا منا.

ونلاحظ كذلك أنه لم يكن يخاطبهم أصلاً، ولم يسمعوه هم يتكلم بل نقل هذا الكلام عنه أحد أصحابه. فلما علم بذلك، أخبرهم أن ذلك كان من الظن (كما صرح أول مرة) ولم يكن خبراً من الله. فلم يتركوا تلقيح النخل أصلاً، كما في الروايتين الضعيفتين اللتين في الشواهد. ففي إسناد الشاهد الأول عكرمة بن عمار، وفيه كلام. وبالغ ابن حزم فاتهمه بالكذب ووضع الحديث كما في كتابه الإحكام (6\ 199). وهو غير عكرمة أبو عبد الله مولى ابن عباس، فلا تخلط بينهما. والراوي عنه هو النضر بن محمد، فيه جهالة، لم يوثقه إلا العجلي وذكره ابن حبان في الثقات، وتوثيقهما أضعف أنواع التوثيق. وإخراج مسلم له ليس بتوثيق، لأنه في الشواهد لا في الأصول.

كما أن في إسناد تلك الرواية الموضوعة حماد بن سلمة. وهو وإن كان من أئمة أهل السنة، فهو كثير الأوهام خاصة لما كبر. وفوق هذا فهو يروي بالمعنى ويتوسع جداً بهذا، وكثيراً ما يتحرّف الحديث ويصبح حسب فهمه أو وهمه. قال عنه ابن حبان في صحيحه (1\ 154): «كان يسمع الحديث عن أيوب وهشام وابن عون ويونس وخالد وقتادة عن ابن سيرين، فيتحرى المعنى ويجمع في اللفظ». وقال أبو حاتم في الجرح والتعديل (9\ 66): «حماد ساء حفظه في آخر عمره». وروى الذهلي عن أحمد أنه قال: «كان حماد بن سلمة يخطئ –وأومأ أحمد بيده– خطأً كثيراً». وقال الذهبي في "السير" (7\ 446): «قال أبو عبد الله الحاكم: قد قيل في سوء حفظ حماد بن سلمة، وجمعه بين جماعة في الإسناد بلفظ واحد، ولم يخّرج له مسلم في الأصول إلا من حديثه عن ثابت، وله في كتابه أحاديث في الشواهد عن غير ثابت». وكلام الحاكم موجود مطولاً بالأمثلة في كتابه "المدخل إلى الصحيح" باب "من عيب على مسلم إخراج حديثه والإجابة عنه". وأشار الترمذي في علله (1\ 120) إلى أن بعض أهل الحديث قد تكلموا في حفظ حماد. ونقل الذهبي في السير (7\ 446 و 452) والزيلعي في نصب الراية (1\ 285)، عن البيهقي في "الخلافيات" أنه قال في حماد بن سلمة: « .. لما طعن في السن ساء حفظه. فلذلك لم يحتج به البخاري. وأما مسلم فاجتهد فيه وأخرج من حديثه عن ثابت مما سُمِعَ منه قبل تغيّره. وأما سوى حديثه عن ثابت فأخرج نحو اثني عشر حديثاً في الشواهد دون الاحتجاج. فالاحتياط أن لا يُحتج به فيما يخالف الثقات». قلت وهو هنا قد أخطأ وخالف بروايته رواية الثقات، والكتاب والسنة وأمراً معلوماً من الدِّين بالضرورة، وهو أن الله أعلم من جميع خلقه بكل شيء، بما في ذلك أمور دنياهم.

وهذه الزيادة الباطلة صارت مفتاحاً لبني علمان ضدنا. حتى أن أحد العلمانيين كتب كتاباً بعنوان «أنتم أعلم بأمور دنياكم»، يدعو به للفصل بين الدين والسياسة، وهذا كفرٌ وردة بلا خلاف.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير