تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ذكره إلا جمع الشهود، ولكن الألفاظ مجملةٌ ".

وأول الملاحظات هنا: أنَّ ابن القيم استند في تبرئة الهروي إلى ما استند إليه شيخ الإسلام آنفاً، بل إنه عوَّل عليه كثيراً، فتواترت تصريحاته به وتجاوبت أصداؤه في الكتاب.

وهذا موقفٌ له ما يسوِّغُهُ، لكن لا ينبغي أن يبالغ فيه؛ لأمو منها:

ـ أن المسألة ليستْ زلَّةً جرى بها القلم ثم لم يعُد الهروي إليها، فالمشكلاتُ تواترت في " المنازل " وغيره (1) بصورة ترجح أنها مذهبٌ متأصلٌ عندهُ.

ـ أن في سيرة الشيخ العملية وجهاً آخر صوفياً جلداً، فمن الإنصاف أن يُتعامل معه على هذا الأساس، وأن تسبر عباراتُهُ بعبارات القوم ومقاصدُهُ بمقاصدِهِم، ولا سيما أنَّ طبيعة الموضوع تَسْتَدعي ذلك!.

ـ ليس اعتمادُ " ذم الكلام " أصلاً وحملُ مافي " المنازل " عليه بأولى من العكسِ، والعدلُ أن يُجْمَعَ بين الكتابين، وما هو بالعسير: فمن السَّائغِ أن يكون لخاصةِ القوم مذهبان: أحدهما لحفظ ظواهر الشريعة عند العامة والآخر للعارفين! وهذا ظاهر كلام الهروي لمن تأمله (2/ 121)! ومنزلةُ التَّلبيس (3/ 382) كلُّها قائمةٌ على هذا الأصلِ.

الثانيةُ: أن ابن القيم اتخذ هذا الموقف المجملَ العامَّ ببراءة الهروي مِن لوثةِ الوحدة سلفاً في المراحل الأولى من تصنيفه ل " المدارج " ولم ينته إليه آخر الكتاب شأن النتائج المبنية على المقدِّمات!

الثالثةُ: أن ابن القيم تعامل مع نصوص " المنازل " انطلاقاً من هذا الموقفِ المبدئيِّ، فلم يترك شاردة ولا واردة من مشكلات الكتاب إلا عالجها وتكلف لها محملاً صحيحاً يليق بمكانة الشيخ ويبرئه من لوثة الوحدة، .....

وهذا مسلك سليمٌ، يستندُ إلى البراءة الأصلية، التي تقتضي حمل كلام المسلم على مذاهب أهل الإسلام وعدم التعجل في تهمته بالشبهات المجردة. لكن لا ينبغي إذا ما تواترت الأدلة والقرائن أن يغلوا المرءُ فيه مبتعداً عن المنهجية العلمية التي تقتضي من الشارح أن يعالج النصوص متجرداً عن المواقفِ المبدئية التي ستؤثر على حيادِ النتائج ومصداقيتها.

ويبدو لي أن خُطا شيخ الإسلام وموقفه كانت أكثر إنصافاً وأقرب لروح الباحث الحيادي، فلم تَشْغَلْهُ سيرة الهروي العطرة عن رؤية ما في كلامه من الانحراف، ولا جَعَلَهُ الانحراف يغلو في غمطه وإنكار حسناته.

الرابعةُ: أشار ابن القيم إلى أنَّ كلام الهروي ـ لا مذهبه ـ قد يحمل على الحلول الخاص، فقال (3/ 508): هذا الكلام " إن أُريد به ظاهرُهُ ... فهذا قول النصارى بعينه، بل عو شرٌ منهُ "! لكن اكتفى في أكثر الإشكلات بتخطئة الشيخ والاعتذار بأنه لُبِّسَ عليه. وظاهر هذا أنه لم يوافق شيخ الإسلام على مذهبه في الحلول الخاصِّ ولا وقف على الأدلة الكافية للجزم به.

4) وأما الدراسة التحليلية لنصوص " المنازل "؛ فَخَرَجْتُ منها بما يلي:

ـ دأب أهل العلم ـ ممن صنف في المعضلات أو دخل طرف منها ـ أن يَبُثُّوا في تضاعيف كلامهم مقاصدهم السليمة ويبينوا مذاهب أهل الحق، وذلك نصيحة للخلق، وتلافياً لإضلال الأتباع، وكفًّا لألسنِ الخائضين. ولكنك لا تجدُ لهذا المسلك القويم عيناً عند الهروي ولا أثراً؛ فلا اعتنى بتبرئة نفسه من باطلِ أهل الاتحاد ولا بتحذير السَّالكين مغبَّة الوقوع فيه!

ـ لم يُبَيِّن الهروي في موضع واحد من كتابه حقيقة الفناء والجمع الذي يدعو إليه بصورة واضحة يطمئنُّ معها المرء لقول من جزم بأن مراده فناءُ الشهود وجمعه لا فناء الوجود وجمعه. ولكنه لم يصرح أيضاً تصريحاً حاسماً بفناء أهل الوحدة وجمعهم. وإنما كانت عبارته غامضةً غالباً، وهي موردٌ للموحدِ والملحدِ. نعم أصبحت في الأبواب الأخيرة أقرب إلى عبارات الملحدين وألصق بها.

ـ أفلح ابن القيم غالباً في تأويل إشارات الهروي المشكلة ومعضلاته في الفناء والجمع تأويلاً سائغاً يُبَرِّئُهُ من لوثة وحدة الوجود. لكن بقيت هنا وهناك بقيةٌ اعتراها نوع تعسُّف وإيغال في الاحتمالات والتخيلات، ولاسيما الأبواب الأخيرة.

5) نعم قد حام الشيخ ـ بل وأقام ـ حول الحمى، لكن عبثاً حاولتُ أن أجزم أرتع أم لم يرتع وقع أم لم يقع؟! ولا والله؛ ما اطمأن القلبُ في هذا إلى قرار، ولولا شبهة وحدة الشهود التي أشار إليها ابن تيمية والذهبي وأصر عليها ابن القيم؛ ما ترددتُ في أن الهروي من أهل الوحدة لا الحلول الخاصِّ!

وعلى ذلك، فمن الخير لي مع هذه الشبهة وتلك السيرة: أنْ أطوي الكلام في هذه القضية، مفوضاً أمر الشيخ إلى الله سبحانه، فهو الذي يفصل بين العباد يوم تُبلى السرائر ويُكشَفُ ما في الضمائر، والرجل قد التزم عقد الإسلام بيقين، فلا ينبغي أن ينزعَ عنه هذا العقد ويُلحَقَ بأهلِ الوحدة والإلحاد إلا بيقين.

قال مبارك: بقي من الكلام سبع ورقات تقريباً وقد بدا عليّ التعب واشعر بألم في اصابعي بسبب كثرة الكتابة فالرجاء الرجوع إلى المقدمة المشار إليها آنفاً.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير