الأصل فى معرفة الأحكام أن تؤخذ من النصوص مباشرة وهى هنا تأتى إما مطلقة كالأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذى القربى والنهى عن الفحشاء والمنكر والبغى، ويترك ما يناسب معرفة كل حال لاجتهاد المكلف، أو مقيدة بمقادير معلومة وأسباب معلومة سدًا لذرائع الانتشار وضبطًا لوحدة المصالح وذلك إذا تعذر على المكلف معرفة التفصيلات والرجوع فيها إلى أصل الشرع.
لكن لما تعذر على الخلق معرفة خطاب الله تعالى فى كل حال بعد انقطاع النص أظهر الله تعالى لخلقه بأمور محسوسة نصبها لهم أسبابًا لأحكام وجعلها موجبة لها ومقتضية للأحكام على مثل اقتضاء العلة الحسية معلولها.
فالقياس إذن يعتمد على قبول الحكم للتعدى ومعرفة ذلك يتطلب معرفة العلة التى شرع لأجلها الحكم وهى المصلحة، اما فى العادات فظاهر واما فى العبادات:فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، والصيام يسد مسالك الشيطان ويعين على العفة وغض البصر ... وكذلك سائر العبادات لا تخلو من شبه ذلك على ما فيها من معنى شكر الله تعالى.
فإذا تبين ذلك افتقر إلى الجهات التى تعرف بها المقاصد فى كل حكم وإلا كان القول بتعدية الحكم تحكمًا بغير دليل.
وقد بين الأصوليون هذه الجهات وهى:
1 - صريح الأمر والنهى الابتدائى: وقيد بالصريح احتراز من الضمنى، وبالابتدائى احتراز من غيره كتأكيد الطلب، ذلك ان الأمر والنهى يقتضى الفعل او الكف بمجرده وومخالفة ذلك مخالفة لمقصود الشرع.
2 - اعتبار العلل بمسالكها المعروفة: فإن العلة إذا كانت معلومة بالنص اتبعت فيثبت الحكم حيث ثبتت وينتفى حيث انتفت وإلا عرفت بمسالكها من الطرد والعكس والدوران ... فإذا تبيت وثبتت علم أن مقصود الشرع مقتضى هذه العلة وإلا فإن تبين أنها غير معلومة تعين التوقف لأن الأصل عدم التعدى حتى يعلم أن ذلك مقصود الشرع.
3 - النظر فى المصالح التابعة: فالشارع قد شرع للأحكام مقاصد أصلية ومقاصد تابعة وكل ما لم ينص عليه مما من شأنه تأكيد أو تقوية أو إدامة المقصد الأصلى فهو مقصود أيضأ ويوافق مقصود الشرع، وما يقابل ذلك يناقض مقصود الشرع.
4 - سكوت الشرع عن الإذن مع قيام الداعى للإذن: فإن سكوت الشرع إن كان فى حادثة وقعت زمان التشريع مع قيام المقتضى لإقرارحكم معين زائد على ما كان فى هذا الزمان دليل على أن مقصود الشرع الا يزيد ولا ينقص على ما كان من حكم متعارف.
فإذا ثبت ان الحكم معلل بوصف وتبين وجود ذلك الوصف فى الفرع لزم حصول ذلك الحكم فى الفرع والعمل بذلك جائز عند جمهور أهل العلم.
غير أن القياس غير معمول به على الإطلاق فإن هناك قواعد فقهية أخرى قد تسوغ مخالفة القياس ومن ذلك:
1 - ما يعرف عند الفقهاء بالنظر فى المآل:وما ينبنى على ذلك من أصول؛ فإنه إذا كانت المصلحة أو المفسدة هى علة الأحكام فإن النظر فى مألات ذلك مفيد شرعًا، فقد يكون الفعل ظاهره جلب مصلحة ثم يئول إلى مفسدة زائدة على تلك المصلحة، ذلك أن الشرع قاصد المسببات من الأسباب.ومن أمثلة ذلك النهى عن التشديد على النفس فى العبادة خوف الانقطاع واختلاف الحكم فى ذلك من شخص إلى آخر.
2 - قاعدة سد الزرائع: وقد حكمها المالكية فى أكثر أبواب الفقه لأن حقيقتها التوصل بما هو مصلحة إلى مفسدة، ومن أسقط حكم الذرائع كالشافعى فإنه اعتبر المآل فى أنه لا يجوز التعاون على الإثم والعدوان كما يكون من سب الأصنام وأشباه ذلك.
3 - قاعدة إبطال الحيل: وحقيقة الحيل تقديم عمل ظاهره الجواز لإبطال حكم شرعى، كالواهب ماله عند رأس الحول، وهو فرع عن القاعدة السابقة مع توافر القصد من الفاعل، وقد ورد عن ابى حنيفة القول بجواز الحيل مع عدم القصد إلى خرم قاعدة الشرع وإلا لحرم ما كان مثل الهبة عند رأس الحول على ما فيه من مصلحة للموهوب له.
4 - قاعدة الاستحسان: وهو مذهب المالكية الأخذ بمصلحة جزئية فى مقابل دليل كلى ومقتضاه تقديم الاستدلال المرسل على القياس ن ذلك ان القياس قد يؤدى إلى مفسدة أو مشقة بالغة.
والعمل بمقتضى الاستحسان غير خارج عن مقاصد الشرع وإنما يرجع إلى ما علم منها وقد جاء فى الشرع أمثلة عليه كالقرض فإنه عبارة عن درهم بدرهم إلى أجل ففيه معنى الربا لكنه إجيز رفعًا للحرج.
أما الأحناف فيرون إلى جانب ذلك ضرورة أن يوافق قولاً لبعض الصحابة.
¥