وإياك وسؤال المعنت ومراجعة المكابر الذي يطلب الغلبة بغير علم فهما خلقا سوء دليلان على قلة الدين وكثرة الفضول وضعف العقل وقوة السخف وحسبنا الله ونعم الوكيل.
وإذا ورد عليك خطاب بلسان أو هجمت على كلام في كتاب فإياك أن تقابله مقابلة المغاضبة الباعثة على المغالبة قبل أن تتبين بطلانه ببرهان قاطع.
وأيضاً فلا تقبل عليه إقبال المصدق به المستحسن إياه قبل علمك بصحته ببرهان قاطع فتظلم في كلا الوجهين نفسك وتبعد عن إدراك الحقيقة. ولكن أقبل عليه إقبال سالم القلب عن النزاع عنه والنزوع إليه إقبال من يريد حظ نفسه في فهم ما سمع ورأى فتزيد به علماً وقبوله إن كان حسناً أو رده إن كان خطأ فمضمون لك إن فعلت ذلك الأجر الجزيل والحمد الكثير والفضل العميم.
من اكتفى بقليله عن كثير ما عندك فقد ساواك في الغنى ولو أنك قارون حتى إذا تصاون في الكسب عما تشره أنت إليه فقد حصل أغنى منك بكثير.
ومن ترفع عما تخضع إليه من أمور الدنيا فهو أعز منك بكثير."
وقال رضي الله عنه في نفس الكتاب:
" فرض على الناس تعلم الخير والعمل به فمن جمع الأمرين فقد استوفى الفضيلتين معاً ومن علمه ولم يعمل به فقد أحسن في التعليم وأساء في ترك العمل به فخلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً وهو خير من آخر لم يعلمه ولم يعمل به وهذا الذي لا خير فيه أمثل حالاً وأقل ذماً من آخر ينهى عن تعلم الخير ويصد عنه.
ولو لم ينه عن الشر إلا من ليس فيه منه شيء ولا أمر بالخير إلا من استوعبه لما نهى أحد عن شر ولا أمر بخير بعد النبي صلى الله عليه وسلم وحسبك بمن أدى رأيه إلى هذا فساداً وسوء طبع وذم حال وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد رضي الله عنه فاعترض ها هنا إنسان فقال: كان الحسن رضي الله عنه إذا نهى عن شيء لا يأتيه أصلاً وإذا أمر بشيء كان شديد الأخذ به وهكذا تكون الحكمة وقد قيل: أقبح شيء في العالم أن يأمر بشيء لا يأخذ به في نفسه أو ينهى عن شيء يستعمله.
قال أبو محمد كذب قائل هذا وأقبح منه من لم يأمر بخير ولا نهى عن شر وهو مع ذلك يعمل الشر ولا يعمل الخير.
قال أبو محمد: وقد قال أبو الأسود الدؤلي:
لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم
وابدأ بنفسك فانهها عن غيها فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
فهناك يقبل إن وعظت ويقتدى بالعلم منك وينفع التعليم.
قال أبو محمد: إن أبا الأسود إنما قصد بالإنكار المجيء بما نهي عنه المرء وإنه يتضاعف قبحه منه مع نهيه عنه فقد أحسن كما قال الله تعالى: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ.
ولا يظن بأبي الأسود إلا هذا. وأما أن يكون نهى عن النهي عن الخلق المذموم فنحن نعيذه بالله من هذا فهو فعل من لا خير فيه.
وقد صح عن الحسن أنه سمع إنساناً يقول: لا يجب أن ينهى عن الشر إلا من لا يفعله فقال الحسن: ود إبليس لو ظفر منا بهذه حتى لا ينهى أحد عن منكر ولا يأمر بمعروف.
وقال أبو محمد: صدق الحسن وهو قولنا آنفاً جعلنا الله ممن يوفق لفعل الخير والعمل به وممن يبصر رشد نفسه فما أحد إلا له عيوب إذا نظرها شغلته عن غيره وتوفانا على سنة محمد صلى الله عليه وسلم آمين رب العالمين."
وقال بل الله بالرحمة ثراه في النبذة:
" وأما من قلد دون النبي صلى الله عليه وسلم فان صادف أمر
النبي صلى الله عليه وسلم به فهو عاص لله تعالى آثم بتقليده ولا سلامه ولا أجر له على موافقته للحق وما يدري كيف هذا فإنه لم يقصد إلى الحق وان أخطأ فيه أثم إثمان إثم تقليده وإثم خلافه للحق ولا أجر له البتة ونعوذ بالله من الخذلان."
وقال لا جعل الله إلا الفردوس مثواه:
" فهذه هي طاعة الله تعالى والأمان من معصيته والحجة القائمة لنا يوم القيامة فليحذر كل أمريء على نفسه أن يحرم ما لم يخبره الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم أنه منهي عنه أو يسقط وجوب ما أمر الله تعالى به أو رسوله صلى الله عليه وسلم فيلقي الله تعالى عاصيا له مخالفا أمره شارعا في الدين ما لم يأذن به الله عز وجل قائلا على الله عز وجل ما لا علم له به وقائلا على رسوله صلى الله عليه وسلم ما لم يقل لئلا يتبوأ معقده من النار أو حاكما عليه بالظن الذي هو أكذب الحديث والذي لا يغني من الحق شيئا ونعوذ بالله تعالى من البلاء."
وقال جمعنا الله و إياه تحت ظل عرشه:
" والحجة لا تكون إلا في نص قرآن أو نص خبر مسند ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو في شيء رآه عليه السلام فأقره لأنه صلى الله عليه وسلم مفترض عليه البيان قال تعالى: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس)
وقال تعالى: (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) وقال تعالى: (هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين) والآيات ما أنزل تعالى من القرآن والحكمة ما أوحى من السنة
فصح يقينا انه صلى الله عليه وسلم لا يدع شيئا من الدين إلا يبينه من الكتاب بالكتاب أو من الكتاب بالسنة أو من السنة بالسنة وهو عليه السلام لا يقر على منكر فإذا علم عليه السلام شيئا ولم ينكره فهو مباح حلال وليس غيره كذلك لأن غيره يخطيء وينسى وينفي ويتثقف لبعض الأمر."
اللهم ارحم علياً و اغفر له و لكل من أحبه و مات ذاباً عن سنة نبيك صلى الله عليه و سلم وظللنا بظل عرشك وأكرمنا بفردوسك بقرب نبيك و صلى الله على محمد و آله و الحمد لله رب العالمين.
أبو داود بن ابراهيم عفا الله عنه
18 - جمادى الآخرة -1425