تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ومن الأمثلة على ذلك أيضا مسألة إباحة الأكل والشرب من الطيبات فالمسلم مباح له الأكل والشرب من الطبيات التي أحلها الله تعالى لعباده، وهذا الحل قد جاء النص عليه فقال تعالى: "كلوا من طيبات ما رزقناكم" وقال تعالى: "كلوا من الطيبات واعملوا صالحا" وقال تعالى: "فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه" إلى غير ذلك من الآيات، وقد جاء ذلك بصفة الإطلاق والعموم، فلا يجوز لأحد حاكما كان أو غيره أن يقيد هذا المباح كأن يمنع تناول طعام أو شراب معين، أو يحدد الكمية التي يتناولها الفرد، أو كم مرة في الأسبوع أو الشهر يتناول ذلك، لأن صورة القيد هنا صورة التشريع لأنه قيد غير مرتبط بظرف ألجأ إليه كثبوت الضرر في نوع معين من الأطعمة، وكذلك الحال بالنسبة للإلزام فليس له أن يلزم الناس بتناول طعام معين ونحو ذلك، لكن لو قدر أنه حصل تناقص في الأقوات وأصبحت الأقوات لا تكفي للشعب فهنا قد تعارض حكمان: حكم إباحة الأكل من الطيبات وتناول الكمية التي يريدها، وحق كل مسلم في أن يجد القوت الذي يسد به جوعته ويحفظ عليه حياته المأمور بالمحافظة عليها، فهذا ظرف أو حال يمكن أن تُلجئ إلى إصدار قانون ينظم هذا التناول لفترة محددة، فلو أصدر ولي الأمر قرارا ينظم هذه المسألة وربطه بتلك الحالة الطارئة لم يحمل هذا على التشريع الدائم المخالف لشرع الله تعالى الممنوع منه كل أحد أميرا كان أو عالما، بل يحمل على التقييد الطارئ المرتبط بالظرف أو الحالة التي ألجأت إليه يوجد بوجودها ويزول بزوالها، وهنا حالة حدثت في الزمن الأول يمكن تفسيرها في ضوء الكلام المتقدم، فقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاثة أيام، والمسلم مباح له أن يدخر قوته ومباح له أن ينفقه على غيره، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث قيد الادخار بثلاثة أيام، وألزم بالإنفاق فيما زاد عن ذلك، فلما كان من العام المقبل سأله الصحابة عن ما يفعلون في ضحاياهم، فقال: كلوا وادخروا إنما نهيتكم من أجل الدافة التي جاءت المدينة [4]، فبين أن هذا التقييد والإلزام هو إجراء مؤقت لسد جوعة المسلمين الفقراء الذين قدموا إلى المدينة في ذلك العام، فلما زال الظرف الطارئ رجع الأمر إلى ما كان عليه، وينبغي عند تشريع مثل هذا أن تكون هناك رأفة ورحمة تراعي نفسيات الناس فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يلزمهم بذلك في كل أموالهم، وإنما جعل ذلك قاصرا على لحوم الأضاحي.

وكذلك الإلزام فليس لأحد أن يوجب على الناس الأكل من طعام معين، أو الشراب من مشروب محدد، لكن لو حدث أن أحدا امتنع عن الأكل أو الشرب بما يهدد حياته فإذا ألزم هذا الممتنع لم يكن الإلزام تشريعا عاما لأنه مرتبط بحالة امتناعه يوجد بوجوده ويزول بزواله، وهو في الوقت نفسه ليس من باب الإلزام بالمباح، وإنما تطبيق لنص آخر وهو قوله تعالى: "ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة" وغيره من النصوص في هذا الباب.

ومن الأمثلة على ذلك أيضا تحديد سن الزواج، فمن الأمور التي تعد من قبيل التشريع العام الذي لا يسوغ لأحد فعله تحديد سن معين للزواج بحيث يمنع منه قبل الوصول إلى هذه السن، فالأصل أنه لا سن محدد للزواج فمتى أمكن القيام بتبعات هذا الأمر جاز الزواج، ولو كان في سن صغير، فتقييد الزواج بسن معين بصورة عامة من غير ارتباط بضرورة أو حاجة ملجئة تجعله داخلا في التشريع الذي لا يسوغ لأحد

وهذا التقييد أو الإلزام في الأمور المنصوص على إباحتها يمكن أخذ جوازه من القاعدة المشهورة "الضرورات تبيح المحظورات" فإذا كان للضرورة أثر في المحظور فمن باب أولى يكون لها أثر في المباح، والقاعدة التي تقول: "الحاجة العامة تنزل منزلة الضرورة"، وهذا يعني أن هذا التصرف بالتقييد أو الإلزام في الأمور المباحة بالنص لا يباح إلا عند الضرورة الملجئة إليه أو الحاجة العامة، فإذا زالت الضرورة أو الحاجة رجع الحكم إلى أصله.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير