و لكنّ بعض الناس تلقفوا ظاهر الرواية الأولى، و أغفلوا غيرها و القرائن التي تحتفّ بها، و زعموا أنها تفيد الرفع في السجود ... كما توهموا من لفظة (بين السجدتين) التي وردت في بعض الآثار، أنها الجلوس الذي بين السجدتين. و إنما هما الركعتان الثانية و الثالثة، كما ورد في حديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه: " حتى إذا قام من السجدتين كبر ورفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه " رواه الترمذي (304) و قال: ومعنى قوله: "ورفع يديه إذا قام من السجدتين" يعني قام من الركعتين ...
قلت: و يعرف هذا بالقرائن،كما في حديث علي رضي الله عنه:" وكان لا يفعل ذلك في شيء من سجوده، وإذا قام من السجدتين مثل ذلك " رواه البيهقي في الكبرى (2137). فلمّا نفى الرفع في السجود، دلّ قوله " قام من السجدتين " أنه يعني القيام من الركعتين ...
و في بعض ألفاظ حديث أبي هريرة رضي الله عنه:" وكان يكبر بين السجدتين، وإذا رفع وإذا خفض " رواه الطيالسي (2320) ... و المراد بقوله "بين السجدتين" الركعتان؛ الثانية و الثالثة. لأن التكبير للسجود و الرفع منه داخل تحت قوله:" إذا رفع و إذا خفض".
و في هذا السياق تدخل الآثار التي وردت عن بعض التابعين كنافع و طاوس و ابن سيرين.
و من الألفاظ الموهمة، ما نقله الشيخ الألباني رحمه الله عن ابن القيم في (البدائع) قال: قال الأثرم:" رأيت أبا عبد الله – يعني الإمام أحمد - يرفع يديه في الصلاة في كل خفض و رفع "، ففهم من قوله "في كل خفض و رفع"، أنه يعني الرفع عند كل تكبيرة.
و سبب هذا الوهم، هو النظر إلى اللفظ بمعزل عن الشواهد و القرائن التي تحتفّ به.
و الحال، أنّ السلف كانوا يستعملون هذا اللفظ في الخفض للركوع و الرفع منه، و هذه بعض أخبارهم:
" اجتمع الأوزاعي والثوري بمني فقال الأوزاعي للثوري: لم لاترفع يديك في خفض الركوع ورفعه؟ فقال الثوري: ثنا يزيد بن أبي زياد. فقال الأوزاعي: أروي لك عن الزهري عن سالم عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وتعارضني بيزيد بن أبي زياد؟ ويزيد رجل ضعيف الحديث وحديثه مخالف للسنة؟ قال: فاحمر وجه سفيان الثوري ... " إلى آخر القصة، و إنما اقتصرت فيها على الشاهد، و هي في سنن البيهقي الكبرى (2/ 82)، و سير أعلام النبلاء للذهبي (7/ 112)
و عن وكيع أن أبا حنيفة قال: ما باله يرفع يديه عند كل رفع وخفض أيريد أن يطير؟ فقال له عبد الله بن المبارك: إن كان يريد أن يطير إذا افتتح، فإنه يريد أن يطير إذا خفض ورفع"، هذا لفظ إسحاق بن راهويه كما في (تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة 1/ 55)
و رواه البيهقي في السنن (2/ 82) من طريق علي بن يونس عن وكيع قال صليت في مسجد الكوفة فإذا أبو حنيفة قائم يصلي وابن المبارك إلى جنبه يصلي فإذا عبد الله يرفع يديه كلما ركع وكلما رفع وأبو حنيفة لا يرفع ... إلخ."
قال ابن عبد البر في (التمهيد 9/ 216): " وحجة من رأى الرفع عند كل خفض ورفع حديث ابن عمر المذكور في هذا الباب ... " قلت: و يعني به الحديث الذي ذكرناه أول البحث، و فيه الرفع في المواطن الثلاثة.
قال الحافظ في (الفتح 2/ 223) بعد أن ذكر مذهب الإمام الشافعي من عدم مشروعية الرفع في غير المواطن الثلاثة:" وأما ما وقع في أواخر البويطي (يرفع يديه في كل خفض ورفع) فيحمل الخفض على الركوع والرفع على الاعتدال ... "
قلت: قوله " في كل خفض و رفع " لفظ عام يراد به الخصوص. قال ابن قدامة في (المغني1/ 303): " والأحاديث العامة مفسرة بالأحاديث المفصلة التي رويناها فلا يبقى فيها اختلاف "
و اعلم أنّ مذهب الإمام أحمد هو مذهب الجمهور، خلافًا لما ذكره عنه الشيخ الألباني رحمه الله، فقد قال ابن القيم رحمه الله في (البدائع 3/ 72): " أكثر الروايات عنه أنه لم يَرَ الرفع عند الإنحدار إلى السجود، و لا بين السجدتين، و لا عند القيام من الركعتين، و لا فيما عدا المواضع الثلاثة في حديث ابن عمر".اهـ
قلت: قال أبو بكر الأثرم: قيل لأحمد بن حنبل رفع اليدين من السجدتين؟ فذكر حديث سالم عن ابن عمر:" ولا يرفع بين السجدتين "، ثم قال:" نحن نذهب إلى حديث ابن عمر ... "
¥