ـ[مصطفى الفاسي]ــــــــ[10 - 10 - 04, 02:16 م]ـ
العلامة وطبيعتها في التراث العربي:
نتناول الموضوع من حيث النقاط التالية:
أولاً: العلامات في التراث:
يبدو البحث في هذا الموضوع مثيراً للجدل، لما يتضمنه من مفارقة؛ لأن علم العلامات أو علم السيمياء –كما يسمى اليوم- علم حديث، يزعم لنفسه القدرة الكاملة على دراسة أنظمة العلامات التي ابتكرها الإنسان. فكيف نربط بين هذا العلم الحديث، وبين ما هو موجود في التراث العربي؟ وما جدوى هذا الربط؟ أهي نزعة تأصيل التراث تدفعنا لذلك؟ أم هي صيحة جاءتنا من غيرنا جعلتنا نعود إلى تراثنا لعلنا نجد فيه ما يشبه هذا العلم الوافد إلينا من الغرب؟.
هذه الأسئلة وغيرها مما يدور في فلكها تحتاج إلى مواجهة، وإلى عودة إلى التراث قصد تفهمه وتحليله وتقويمه.
إن الموروث الفكري العربي لا يعدو أن يكون في كنهه مخزوناً علمياً أو ثقافياً، يظهر في شكل نظام من العلامات الدالة. وتتجلى سيميائية هذا النظام في إطاره اللغوي والثقافي والحضاري.
وقد تبلور علم السيمياء على يد علماء الأصول والتفسير والمنطق واللغة والبلاغة. وكان الباحث والموجه للدرس السيميائي هو القرآن الكريم؛ إذ منذ نزوله كان التأمل في العلامة بغية اكتشاف بنيتها الدلالية. فقد أرشد القرآن الكريم في مواضع عدة إلى تدبرها، ومن ذلك قوله تعالى:) إن في ذلك لآياتٍ لقوم يعقلون (. الرعد، 4. وقوله:) وعلاماتٍ وبالنجم هم يهتدون (. النحل، 16.
ففي هذا التوجيه الرباني كان التعامل مع العلامة قصد فهم دلالته الروحية والعقلية والكونية، والاستدلال بحاضرها على غائبها. يقول القاضي عبد الجبار: "إن من حق الأسماء أن يعلم معناها في الشاهد ثم يبنى عليه الغائب" (16). وقد أشار إلى هذا المعنى –كذلك- الراغب الأصفهاني، وذلك حينما تحدث عن الفقه، فيقول: "إن الفقه هو معرفة علم غائب بعلم شاهد" (17).
فمن هذه الوجهة تعامل العلماء مع العلامة من حيث هي علامة تدل على حقيقة حسية حاضرة تحيل إلى علامة دالة على حقيقة مجردة غائبة.
ثالثاً: ماهية العلامة:
الواقع أن دراسة نظام العلامات قديم قدم الحياة نفسها، ولكن المنطلقات النظرية لهذه الدراسة اختلفت من عصر إلى عصر، ومن أمة إلى أخرى، وذلك لاختلاف الحقب التاريخية، واختلاف الحضارات. وقد وصلت بعض الأفكار السيميائية من حضارات قديمة كالحضارة اليونانية والعربية، إلا أن تلك الأفكار السيميائية ظلت في إطار التجربة الذاتية، ولم تدخل في إطار التجربة العلمية الموضوعية (18).
فقد رأى الباحثون أن القدامى من عرب وعجم اهتموا بهذا الجانب من علوم اللسان منذ أكثر من ألفي سنة. فقد أفرد الفيلسوف أفلاطون بالتأليف. وأكد أن للأشياء جوهراً ثابتاً، وأن الكلمة أداة التعبير عن الحقيقة، وبذلك يتم تبين الكلمة وحقيقتها الدالة عليها، أي: بين الدال والمدلول، أو المبنى والمعنى تلاؤم طبيعي. فلهذا كان اللفظ يعبر عن جوهر الأشياء، وكانت الكلمة تظهر أول ما تظهر في وسط بدائي، وهذا ما حدا بسقراط إلى القول بأن المجتمع البدائي هو المنبع الأصيل للكلمة.
وقد أشار أفلاطون إلى ما تمتاز به أصوات الكلمة من دلائل، أي العلاقة الطبيعية مع المدلول، ولذلك كانت الأصوات اللغوية أدوات للتوصيل عن معان عدة كالحركة والخفة والاضطراب والخوف والطموح والعظمة والاستبطان وغير ذلك من المعاني (19).
وإذا كانت السيمياء تتناول العلامة، فقد اهتم الدارسون العرب القدامى بتعريفها. ويتقارب مفهومها عندهم مع مفهوم السمة والأمارة والأثر والدليل. فكل ذلك يتعلق بالدلالة. وهي في اعتقادهم "كون الشيء بحالة يلزم من العلم به العلم بشيء آخر" (20).
يقول أحمد بن فارس حين كلامه عن مادة (دلّ): " .. أصل يدل على إبانة الشيء بأمارة تتعلمها، والدليل الأمارة في الشيء" (21).
ويقول أبو هلال العسكري في هذا الأمر حين كان بصدد الحديث عن العلامة والدلالة: "يمكن أن يستدل بها، أَقَصَدَ فاعلها ذلك، أم لم يقصد، والشاهد أن أفعال البهائم تدل على حدثها، وليس لها قصد إلى ذلك .. وآثار اللص تدل عليه، وهو لم يقصد ذلك، وما هو معروف في عرف اللغويين يقولون استدللنا علينا بأثره، وليس هو فاعل لأثره من قصد" (22).
¥