تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

هذه إيماءة من أبي هلال إلى إشكالية القصدية في العلامة، وهي الإشكالية التي تعد في الفكر السيميائي الحديث، موضوع نقاش بين اتجاهين: اتجاه يؤكد على الطبيعة الإبلاغية التواصلية للعامة، ويمثل هذا الاتجاه كل من مونان، ومارتيني، وبرييطو في الفكر السيميائي الفرنسي. وهم يعتقدون أن العلامة تتألف في أساسها من دال ومدلول وقصد. واتجاه آخر يركز على الجانب التأويلي للعلامة، أي من حيث إمكانية العلامة للتأويل بالنسبة للمتلقي. ويمثل هذا الاتجاه رولان بارت الفرنسي، وهو اتجاه يوصف بالسيميمائية الدلالية.

نجد هذا التصور نفسه للعلامة عند الراغب الأصفهاني، إذ يقول: "الدلالة ما يتوصل به إلى معرفة الشيء، كدلالة الألفاظ على المعنى، ودلالات الإشارات والرموز والكتابة، وسواء أكان ذلك بقصد من يجعله دلالة، أم لم يكن يقصد، كمن يرى حركة إنسان فيعلم أنه حي" (23).

ويستشهد الأصفهاني على تصوره هذا بما ورد في قوله تعالى:) ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل مِنْسأَته (سبأ، 14. فالراغب بهذا المفهوم للدلالة يوسع المجال التطبيقي الإجرائي للعلاقة لتشمل أنماطاً سيميائية، هي: (الألفاظ، الإشارات، الرموز، الكتابة، الهيئة). ثم يركز على مسألة الدلالة القصدية وعدمها في العلامة، وقد كان مدركاً عندما جسد ذلك بصورة سيلمان –عليه السلام- كما ورد في الآية الكريمة –حيث ظل بعد وفاته عاماً منتصباً ومستنداً على منسأته (عصاه). هذه الهيئة أو النصبة كما يسميها الجاحظ (24)، أوّلها الجن بدلالة الحياة، لذلك كانت تعمل، وكأنها مأمورة. وبالتقادم الزمني أكلت الأرضة منسأته، فخر ساقطاً، وهذه الهيئة هي علامة موت وفناء، وهذه الصورة التي مثل بها الأصفهاني تنطبق على أي هيئة.

يتضح مما سبق أن التأويل وجد طريقه في الدراسات العربية، وبخاصة في الدراسات القرآنية، وقد اتسعت دائرته لدى الشيعة والمتصوفة والفلاسفة والمعتزلة وإخوان الصفا .. واتخذ بعضهم المصحف جلّه موضع تأويل، رغم اختلاف مستويات خطاب النص القرآني. وانتقى آخرون نصوصاً تخدم مقاصدهم المختلفة، إلا أنه يمكن القول: إن المفسرين على اختلاف مشاربهم استثمروا النصوص الوارد فيها التشبيه بكيفية صريحة أو مجازية.

ولم يقتصر منظور القدامى لمفهوم العلامة التأويلية على النص القرآني، وإنما تجاوز إلى كل ما له علاقة بالعمل الأدبي، فقد تعاملوا مع الإشارة الموحية، وهو نوع من الأساليب البلاغية التي تخرج إلى المعنى المجازي.

3 - طبيعة العلامة:

لقد اهتم الدارسون القدامى على اختلاف مشاربهم واتجاهاتهم العلمية، من لغويين وفلاسفة وعلماء أصول، بطبيعة العلامة من حيث هي شيء محسوس يدلّ على شيء مجرد غائب عن الأعيان. يقول ابن سينا: "إن الإنسان قد أوتي قوة حسية ترتسم فيها صور الأمور الخارجية .. فترتسم فيها ارتساماً ثانياً ثابتاً، وإن غابت عن الحس ... ومعنى دلالة اللفظ (هو) أن يكون إذا ارتسم في الخيال مسموع اسم، ارتسم في النفس معنى، فتعرف النفس أن هذا المسموع لهذا المفهوم، فكلما أورده الحس على النفس التفتت إلى معناه" (25).

إذا تدبرنا مفهوم ابن سينا لدلالة اللفظ نجده يتفق ومفهوم دوسوسير للعلامة. فالعلامة في منظور ابن سينا ثنائية المبنى، تتألف من مسموع، ومعنى (مفهوم). وبهذا التصور يلغى من مفهوم العلامة المرجع الذي تحيل إليه العلامة، وذلك ما نجده عند دوسوسير أيضاً، إذ تتألف العلامة عنده من صورة سمعية (دال) وصورة ذهنية أو تصور (مدلول). وهناك بعض العلماء يعدون المرجع طرفاً أساسياً في العلامة. من أولئك أبو حامد الغزالي الذي يرى أن الأشياء في الوجود لها أربع مراتب، إذ يقول: "إن للشيء وجوداً في الأعيان، ثم في الأذهان، ثم في الألفاظ، ثم في الكتابة. فالكتابة دالة على اللفظ، واللفظ دال على المعنى الذي في النفس، والذي في النفس هو مثال الوجود في الأعيان" (26). فالعلامة في نظر الغزالي تتألف من أطراف أربع أساسية، هي: الموجود في الأعيان، الموجود في الأذهان، الموجود في الألفاظ، الموجود في الكتابة.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير