ـ[مصطفى الفاسي]ــــــــ[10 - 10 - 04, 02:20 م]ـ
4 - أنواع العلامات ومجالها الدلالي:
إذا كانت السيمياء تبدأ بالعلامة، فقد اهتم العلماء بتصنيف العلامات وتميزها وتعليلها من أجل إدراك مجال أوسع لماهيتها، وتوصلوا إلى أن النظام السيميائي للعلامة يتأسس على أنواع من العلامات، يمكن الإشارة إليها فيما يأتي:
1 - إذا نظرنا إلى العلامة من حيث طبيعة الدال فهي إما أن تكون لفظية أو غير لفظية (32).
2 - أما إذا نظرنا إلى العلامة اللفظية الوضعية أو الاصطلاحية، فهي لا تعدو أن تكون واحدة من ثلاث، وهي: المطابقة، والتضمن والالتزام. فإن لفظ "البيت" –مثلاً- يدل على معنى البيت بطريق المطابقة، ويدل على السقف بطريق التضمن، لأن البيت يتضمن السقف. وأما دلالة الالتزام فهي كدلالة لفظ السقف على الحائط، فهو كالرفيق الملازم الخارج عن ذات السقف الذي لا ينفصل عنه (33).
3 - وإذا نظرنا إلى العلامة من حيث طبيعة العلاقة القائمة بين طرفي الدال ( significant) والمدلول ( signifié)، فهي إما وضعية أو طبيعية أو عقلية (34). ويمكن توضيح هذه المفاهيم في الآتي:
أ-الوضعية: هي العلامة الاصطلاحية المتفق عليها في وسط اجتماعي، أو المتواضع عليها بين أفراد المجتمع، ويضم هذا النوع كل العلامات اللفظية.
فقد توصف الفتاة فتسمى غزالاً دلالة على رشاقتها، وقد تسمى حمامة، وزهرة، وقضيباً، .. وقد يسمى الرجل جملاً دلالة على صبره وتحمله المشاق، وقد يسمى ثوراً وسيفاً ونجماً، .. وبعض هذا النوع من العلامات يدخل في إطار المجاز.
ب-العلامة الطبيعية: المقصود بالعلامة الطبيعية هي تلك العلامة الناتجة عن أحداث طبيعية، سواء أكانت طبيعة اللفظ، أم طبيعة الحامل المادي للعلامة. فكل العلامات التي تعكس أصوات الطبيعة من خرير المياه، وحفيف الأشجار، وولولة الريح تنسحب ضمن هذا النوع، وكذلك الأصوات الملازمة للانفعالات، والتعبيرات الفيزيولوجية، كملامح الوجه، وتغير لونه من حالة إلى أخرى (35).
جـ-العلامة العقلية: المراد بها دلالة الأثر على المؤثر، كدلالة السحاب على المطر، والدخان على النار. فالعلاقة العقلية في التراث العربي تنحصر في علاقة السببية، أي: يجد العقل ثمة علاقة ذاتية بين طرفي الدال والمدلول.
إن العلامة بنمطها السيميائي ذات فضاء، ليس من السهل إخضاعه لثنائية الدال والمدلول، لأن العلامة في أساسها تتسم بدينامية وحركية، وبالأحرى فهي انزياحية، وتكتسب دلالتها من الوسط الاجتماعي.
5 - العلامة اللغوية والتحول الدلالي:
إن الألفاظ المفردة في التركيب "تجري مجرى العلامات والسمات ولا معنى للعلامة والسمة حتى يحتمل الشيء ما جعلت العلامة دليلاً عليه وخلافه" (36).
ولكن هذه العلامات اللسانية، لما تتميز بقابليتها للدخول في علاقات تركيبية، تتميز أيضاً بقابليتها للتحول الدلالي، بحيث تتحول العلامة في سياق معين إلى علامة ذات دلالة مركبة، يتحول مدلولها إلى دال باحثاً عن مدلول آخر. فإذا وصفت فتاة –مثلاً- في سياق معين بأنها نؤوم الضحى، فإن الصفة هذه تشير إلى مدلول آخر، هو أن الفتاة تنام حتى ترتفع الشمس في السماء. ولكن هذا المدلول يتحول إلى دال باحثاً عن مدلول، وهو أن الفتاة هذه مترفة، ولها من يخدمها.
وعبد القاهر الجرجاني وإن كان لا يتحدث عمّا يسمى بالتحول الدلالي، فإنه يتحدث عن المعنى ومعنى المعنى. فقد بين عبد القاهر الميدان الإجرائي للعلامة حين صنف الخطاب المنجز في الفكر الإنساني، فيقول: "الكلام على ضربين: ضرب أنت تصل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده، .. وضرب آخر أنت لا تصل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده، ولكن يدلك اللفظ على معناه الذي يقتضيه موضوعه في اللغة، ثم تجد لذلك المعنى دلالة ثانية تصل بها إلى الغرض .. أولاً ترى أنك إذا قلت: "هو كثير رماد القدر"، أو قلت: "طويل النجاد"، أو قلت في المرأة: "نؤوم الضحى"، فإنك في جميع ذلك لا تفيد غرضك الذي تعني من مجرد اللفظ، ولكن بذلك اللفظ على معناه الذي يوحيه ظاهره، ثم يعقل السامع من ذلك المعنى على سبيل الاستدلال معنى ثانياً (37).
وإذا تأملنا قول الجرجاني، فإننا نجده يماثل مفهوم بيرس للعلامة، من حيث قابلية التفسير، لأن تتحول إلى متوالية من العلامات، لها فضاء دلالي غير محدد فيقول: "المعنى ومعنى المعنى، تعني بالمعنى المفهوم من ظاهر اللفظ الذي تصل إليه بغير واسطة، ومعنى المعنى هو أن تعقل من لفظ معنى، ثم يقضي بك ذلك المعنى إلى معنى آخر" (38).
يفهم من هذا القول أن المعنى (المدلول)، قد يتحول إلى مبنى (دال) باحثاً عن مدلول آخر، أي: أن المعنى بحد ذاته إشارة تعود على موضوعها الذي أفرز المعنى.
الخاتمة:
يتضح من هذا البحث المتواضع، حول علم السيمياء في التراث العربي، أن القدامى قد تفطنوا في وقت مبكر إلى قيمة العلامة، من حيث هي حقيقة حسية تعود وتحيل إلى حقيقة مجردة غائبة. وكانت دراستهم التطبيقية تتمركز حول الدراسات القرآنية؛ فالقرآن هو الموجه والباعث الحقيقي للدرس السيميائي.
ولعلنا نكون في النهاية قد لفتنا أنظار الدارسين إلى أهمية علم السيمياء فيما يمكن أن يفتح لنا من مداخل، تمكننا من إعادة قراءة التراث بكل جوانبه ومناحيه قراءة جديدة، فنعيد اكتشاف ذاتنا الثقافية والحضارية من خلاله.
¥