ووصاله أشهى إليها من جميع أمانيها، لا تزداد على تطاول الأحقاب إلا حسناً وجمالاً، ولا يزداد على طول المدى إلا محبةً ووصالاً، مبرأة من الحبل (الحمل) والولادة والحيض والنفاس، مطهرة من المخاط والبصاق والبول والغائط وسائر الأدناس.
لا يفنى شبابها ولا تبلى ثيابها، ولا يخلق ثوب جمالها، ولا يمل طيب وصالها، قد قصرت طرفها على زوجها، فلا تطمح لأحد سواه، وقصرت طرفه عليها فهي غاية أمنيته وهواه، إن نظر إليها سرته، وإن أمرها أطاعته، وإن غاب عنها حفظته فهو معها في غاية الأماني والأمان.
هذا ولم يطمثها قبله أنس ولا جان، كلما نظر إليها ملأت قلبه سروراً، وكلما حدثته ملأت أذنه لؤلؤاً منظوماً ومنثوراً، وإذا برزت ملأت القصر والغرفة نوراً.
وإن سألت: عن السن، فأتراب في أعدل سنّ الشباب.
وإن سألت: عن الحسن، فهل رأيت الشمس والقمر.
وإن سألت: عن الحدق (سواد العيون) فأحسن سواد، في أصفى بياض، في أحسن حور (أي: شدة بياض العين مع قوة سوادها).
وإن سألت: عن القدود، فهل رأيت أحسن الأغصان.
وإن سألت: عن النهود، فهن الكواعب، نهودهن كألطف الرمان.
وإن سألت: عن اللون، فكأنه الياقوت والمرجان.
وإن سألت: عن حسن الخلق، فهن الخيرات الحسان، اللاتي جمع لهن بين الحسن والإحسان، فأعطين جمال الباطن والظاهر، فهن أفراح النفوس وقرة النواظر.
وإن سألت: عن حسن العشرة، ولذة ما هنالك: فهن العروب المتحببات إلى الأزواج، بلطافة التبعل، التي تمتزج بالزوج أي امتزاج.
فما ظنك بامرأة إذا ضحكت بوجه زوجها أضاءت الجنة من ضحكها، وإذا انتقلت من قصر إلى قصر قلت هذه الشمس متنقل في بروج فلكها، وإذا حاضرت زوجها فياحسن تلك المحاضرة، وإن خاصرته فيالذة تلك المعانقة والمخاصرة:
وحديثها السحر الحلال لو أنه
لم يجن قتل المسلم المتحرز
إن طال لم يملي وإن هي
أوجزت ودّ المحدّث أنها لم توجز
إن غنّت فيا لذة الأبصار والأسماع، وإن آنست وأنفعت فياحبذا تلك المؤانسة والإمتاع، وإن قبلت فلا شيء أشهى إليه من ذلك التقبيل، وإن نولت فلا ألذ وى ألذ ولا أطيب من ذلك التنويل.
هذا، وإن سألت: عن يوم المزيد، وزيارة العزيز الحميد، ورؤية وجهه المنزه عن التمثيل والتشبيه، كما ترى الشمس في الظهيرة والقمر ليلة البدر، كما تواتر النقل فيه عن الصادق المصدوق، وذلك موجود في الصحاح، والسنن المسانيد، ومن رواية جرير، وصهيب، وأنس، وأبي هريرة، وأبي موسى، وأبي سعيد، فاستمع يوم ينادي المنادي:
يا أهل الجنة
إنّ ربكم تبارك وتعالى يستزيركم فحيّ على زيارته، فيقولون سمعاً وطاعة، وينهضون إلى الزيارة مبادرين، فإذا بالنجائب قد أعدّت لهم، فيستوون على ظهورها مسرعين، حتى إذا انتهوا إلى الوادي الأفيح الذي جعل لهم موعداّ، وجمعوا هناك، فلم يغادر الداعي منهم أحداً، أمر الرب سبحانه وتعالى بكرسية فنصب هناك، ثم نصبت لهم منابر من نور، ومنابر من لؤلؤ، ومنابر من زبرجد، ومنابر من ذهب، ومنابر من فضة، وجلس أدناهم - وحاشاهم أن يكون بينهم دنئ - على كثبان المسك، ما يرون أصحاب الكراسي فوقهم العطايا، حتى إذا استقرت بهم مجالسهم، واطمأنت بهم أماكنهم، نادى المنادي:
يا أهل الجنة
سلام عليكم.
فلا ترد هذه التحية بأحسن من قولهم: اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت ياذا الجلال والإكرام.
فيتجلى لهم الرب تبارك وتعالى يضحك إليهم ويقول: يا أهل الجنة
فيكون أول ما يسمعون منه تعالى: أين عبادي الذين أطاعوني بالغيب ولم يروني، فهذا يوم المزيد.
فيجتمعون على كلمة واحدة: أن قد رضينا، فارض عنا
فيقول: يا أهل الجنة
إنّي لو لم أرض عنكم لم أسكنكم جنتي، هذا يوم المزيد، فسلوني ..
فيجتمعون على كلمة واحدة: أرنا وجهك ننظر إليه.
فيكشف الرب جل جلاله الحجب، ويتجلا لهم فيغشاهم من نوره ما لو لا أن الله سبحانه وتعالى قضى ألا يحترقوا لاحترقوا.
ولا يبقى في ذلك المجلس أحد إلا حاضره ربه تعالى محاضرة، حتى إنه يقول: يا فلان، أتذكر يوم فعلت كذا وكذا، يذكّره ببعض غدراته في الدنيا ..
فيقول: يا رب ألم تغفر لي؟
فيقول: بلى بمغفرتي بلغت منزلتك هذه.
فيا لذة الأسماع بتلك المحاضرة.
ويا قرّة عيون الأبرار بالنظر إلى وجهه الكريم في الدار الآخرة. ويا ذلة الراجعين بالصفقة الخاسرة.
{وجوه يومئذ ناضرة، إلى ربها ناظرة، و وجوه يوم إذ ٍ باسرة، تظن أن يفعل بها فاقرة} [القيامة:22 - 25]
فحي على جنات عدن فإنها
منزلك الأولى وفيها المخيم
ولكننا سبي العدو فهل ترى
نعود إلى أوطاننا ونسلم
انتهى كلام ابن القيم رحمه الله تعالى (حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح ص355 - 360)
نسأل الله تعالى من فضله.
ـ[خالد الأنصاري]ــــــــ[16 - 12 - 04, 02:45 م]ـ
بسم الله الرحمن الرحيم
جزاك الله خيراً أخي الشيخ , وجعلنا وإياكم في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
ولا نقول إلا (اللهم إنا نسألك الفردوس الأعلى) ربنا ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا , وتوفنا مؤمنين , واحشرنا في زمرة خير البشر محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
¥