من أوسع من تكلم في هذه المسألة وبسطها شيخ الإسلام (ابن تيمية) في كتابه (اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم)، وقد حشد لذلك الأدلة العامة والخاصة، وجمع النصوص من الكتاب والسنة وأقوال السلف وإجماع الأمة، والأدلة من الاعتبار والنظر مما لا يحيط به إلا من آتاه الله بسطة في العلم والفقه، ودقة النظر، وحسن الاستدلال، وهو ما جمعه شيخ الإسلام – رحمه الله -.
وأصل كلامه مبسوط واسع مفصل، فاختصرته في هذه الصفحات اختصاراً مع المحافظة على عبارته -ما أمكن- وهي صفحات تغري بالرجوع إلى أصلها ولا تغني عنه، يتضح من خلالها حكم هذه المسألة مزيلة كل لبس، كاشفة كل التباس.
قال رحمه الله:
موافقة الكفار في أعيادهم لا تجوز من طريقين: الدليل العام، والأدلة الخاصة:
أما الدليل العام: أن هذا موافقة لأهل الكتاب فيما ليس من ديننا، ولا عادة سلفنا، فيكون فيه مفسدة موافقتهم، وفي تركه مصلحة مخالفتهم، لما في مخالفتهم من المصلحة لنا، لقوله - صلى الله عليه وسلم - (من تشبه بقوم فهو منهم) فإن موجب هذا تحريم التشبه بهم مطلقا، وكذلك قوله (خالفوا المشركين)، وأعيادهم من جنس أعمالهم التي هي دينهم أو شعار دينهم، الباطل.
وأما الأدلة الخاصة في نفس أعياد الكفار، فالكتاب والسنة والإجماع والاعتبار دالة على تحريم موافقة الكفار في أعيادهم.
أما الكتاب فقوله – تعالى -: (والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كراما) قال محمد بن سيرين (لا يشهدون الزور) هو الشعانين – وهو من أعياد النصارى - وعن الربيع بن أنس قال: هو أعياد المشركين، وجاء عن غيرهم من السلف نحو ذلك.
وإذا كان الله قد مدح ترك شهودها، الذي هو مجرد الحضور برؤية أو سماع، فكيف بالموافقة بما يزيد على ذلك من العمل، الذي هو عمل الزور لا مجرد شهوده.
وأما السنة: الحديث الأول عن أنس بن مالك - رضي الله عنه – قال: قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم – المدينة، ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال: ما هذان اليومان، قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم – (إن الله قد أبدلكم بهما خيرا منهما، يوم الأضحى، ويوم الفطر) فوجه الدلالة أن اليومين الجاهليين لم يقرهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا تركهم يلعبون فيهما على العادة، بل قال إن الله قد أبدلكم بهما يومين آخرين، والإبدال من الشيء يقتضي ترك المبدل منه، إذ لا يجمع بين البدل والمبدل منه.
الحديث الثاني: ما رواه أبو داود عن ثابت بن الضحاك قال: نذر رجل على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ينحر إبلاً ببوانة، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم –فقال: إني نذرت أن أنحر إبلا ببوانة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:" هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد "، قالوا: لا، قال: فهل كان فيها عيد من أعيادهم، قالوا: لا، قال: فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:" أوف بنذرك فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم " (وبوانه اسم مكان قريب ينبع شمال مكة).
وهذا يدل على أن الذبح بمكان عيدهم ومحل أوثانهم معصية لله، وإذا كان الذبح بمكان عيدهم منهيا عنه فكيف الموافقة في نفس العيد بفعل بعض الأعمال التي تعمل بسبب عيدهم؟
وهذا نهي شديد عن أن يفعل شيء من أعياد الجاهلية - على أي وجه كان - وأعياد الكفار من الكتابيين والأميين في دين الإسلام من جنس واحد.
وإذا كان الشارع قد حسم مادة أعياد أهل الأوثان؛ خشية أن يتدنس المسلم بشيء من أمر الكفار الذين قد أيس الشيطان أن يقيم أمرهم في جزيرة العرب، فالخشية من تدنسه بأوصاف الكتابيين الباقين أشد، والنهي عنه أوكد، كيف وقد تقدم الخبر الصادق بسلوك طائفة من هذه الأمة سبيلهم؟
¥