يجب أن نعلم أولاً أن ما أمر الله به ورسوله أو نهى الله عنه ورسوله هو الحكمة فعلينا أن نسلم ونقول: إذا سألنا أحد عن الحكمة في أمر من الأمور: أن الحكمة أمر الله ورسوله في المأمورات، ونهي الله ورسوله في المنهيات.
والدليل على ذلك:
أولاً: من القرآن:
قال الله تبارك وتعالى:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ) (المائدة:101)
قال الإمام ابن كثير في " تفسير القرآن العظيم ":
" هَذَا تَأْدِيب مِنْ اللَّه تَعَالَى لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَنَهْي لَهُمْ عَنْ أَنْ يَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاء مِمَّا لَا فَائِدَة لَهُمْ فِي السُّؤَال وَالتَّنْقِيب عَنْهَا ... " اهـ.
قال الله تعالى (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) (الأحزاب: من الآية36).
قال سيد (5/ 2866 – 2868).
" فهذا المقوم من مقومات العقيدة هو الذي استقر في قلوب تلك الجماعة الأولى من المسلمين استقراراً حقيقيا ; واستيقنته أنفسهم , وتكيفت به مشاعرهم. .
هذا المقوم يتلخص في أنه ليس لهم في أنفسهم شيء ; وليس لهم من أمرهم شيء. إنما هم وما ملكت أيديهم لله.
يُصرفهم كيف يشاء , ويختار لهم ما يريد، وإن هم إلا بعض هذا الوجود الذي يسير وفق الناموس العام.
وخالق هذا الوجود ومدبره يحركهم مع حركة الوجود العام، ويقسم لهم دورهم في رواية الوجود الكبيرة ; ويقرر حركاتهم على مسرح الوجود العظيم.
وليس لهم أن يختاروا الدور الذي يقومون به , لأنهم لا يعرفون الرواية كاملة ; وليس لهم أن يختاروا الحركة التي يحبونها لأن ما يحبونه قد لا يستقيم مع الدور الذي خصص لهم! وهم ليسوا أصحاب الرواية ولا المسرح ; وإن هم إلا أُجراء لهم أجرهم على العمل , وليس لهم ولا عليهم في النتيجة!
عندئذ أسلموا أنفسهم حقيقة لله؛ أسلموها بكل ما فيها ; فلم يعد لهم منها شيء، وعندئذ استقامت نفوسهم مع فطرة الكون كله ; واستقامت حركاتهم مع دورته العامة ; وساروا في فلكهم كما تسير تلك الكواكب والنجوم في أفلاكها , لا تحاول أن تخرج عنها , ولا أن تسرع أو تبطئ في دورتها المتناسقة مع حركة الوجود كله.
وعندئذ رضيت نفوسهم بكل ما يأتي به قدر الله , لشعورهم الباطن الواصل بأن قدر الله هو الذي يصرف كل شيء , وكل أحد , وكل حادث , وكل حالة. واستقبلوا قدر الله فيهم بالمعرفة المدركة المريحة الواثقة المطمئنة.
وشيئا فشيئا لم يعودوا يحسون بالمفاجأة لقدر الله حين يصيبهم , ولا بالجزع الذي يعالج بالتجمل ; أو بالألم الذي يعالج بالصبر. إنما عادوا يستقبلون قدر الله استقبال العارف المنتظر المرتقب لأمر مألوف في حسه , معروف في ضميره , ولا يثير مفاجأة ولا رجفة ولا غرابة!
ومن ثم لم يعودوا يستعجلون دورة الفلك ليقضوا أمرا هم يريدون قضاءه , ولم يعودوا يستبطئون الأحداث لأن لهم أربا يستعجلون تحقيقه , ولو كان هذا الأرب هو نصر دعوتهم وتمكينها! إنما ساروا في طريقهم مع قدر الله , ينتهي بهم إلى حيث ينتهي , وهم راضون مستروحون , يبذلون ما يملكون من أرواح وجهود وأموال في غير عجلة ولا ضيق , وفي غير من ولا غرور , وفي غير حسرة ولا أسف. وهم على يقين أنهم يفعلون ما قدر الله لهم أن يفعلوه ; وأن ما يريده الله هو الذي يكون , وأن كل أمر مرهون بوقته وأجله المرسوم.
إنه الاستسلام المطلق ليد الله تقود خطاهم , وتصرف حركاتهم ; وهم مطمئنون لليد التي تقودهم , شاعرون معها بالأمن والثقة واليقين , سائرون معها في بساطة ويسر ولين.
وهم - مع هذا - يعملون ما يقدرون عليه , ويبذلون ما يملكون كله , ولا يضيعون وقتا ولاجهدا , ولا يتركون حيلة ولا وسيلة. ثم لا يتكلفون ما لايطيقون , ولا يحاولون الخروج عن بشريتهم وما فيها من خصائص , ومن ضعف وقوة ; ولا يدعون ما لا يجدونه في أنفسهم من مشاعر وطاقات , ولا يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا , ولا أن يقولوا غير ما يفعلون.
¥