ولو أردنا أن نأخذ نموذجاً حياً فسوف نجد العراق أمثل نموذج، وقبل أن أدخل في بيانه أنبه القارئ الكريم إلى أن هذا الكلام مبني على أحسن أحوال مدعي تصدير الحضارة أو الحرية أو الثقافة على متن الدبابة، مفترضاً على سبيل التنزل أنه لا مآرب أخرى للجنود ولا لمن أرسلهم غير بذل المهج والنفوس من أجل الحرية!
لقد دخلت القوات البريطانية محتلة العراق ما بين 1904 - 1918، وقدم الجنرال [مود] عندما احتل جيشه بغداد يوم 11 مارس 1917 فخاطب العراقيين قائلاً عبارته المشهورة: 'إننا جئناكم محررين لا فاتحين' وألقى وعوده وتباشيره بعصر الحرية والغد المشرق.
فإذا العراق ترزح تحت نير احتلال تبدو مطامعه يوماً بعد يوم ومع ذلك لايزال المحتل يجد له أنصاراً وأعواناً وأذناباً كما هي الحال اليوم، وعلى الطرف الآخر تتوالي أعمال المقاومة وتتصاعد حتى جاءت ثورة العشرينات فعزل الكولونيل [ولسن] الحاكم الملكي في العراق وعين بدلاً عنه [برسي كوكس] ليمثل الحكومة البريطانية في العراق ومهمته المعلنة تأسيس حكومة عربية في العراق وتنفيذ مطالب الثوار فوصل بغداد في يوم 11 أكتوبر 1920 فاستقبل في بغداد من قبل العملاء استقبالاً حافلاً حتى قال جميل صدقي الفيضي ابن الملا أحمد بابان زهاوي [1]، قصيدة ترحيبية حمل فيها على المقاومة حملة شعواء من جملة ما جاء فيها:
عُد للعراق وأصلح منه ما فسدا وابثث به العدل وامنح أَهله الرغدا
الشعب فيه عليك اليوم معتمدٌ فيما يَكون كَما قد كانَ معتمدا
حييت من قادم إِبَّانَ حاجِتنا * إليه نَرجو به للأمة الرشدا
إنَّ العِراق لمسعودٌ برؤيته * أباً له من بلاد العدل قد وردا
وبفضل هؤلاء الأذناب أو المغفلين –وأنت تراهم في كل عصر ومصر- الذين يفتون في عضد الأمة، يظن المحتل أن يده ملأى.
لقد تأسس ما سمي بالدولة العراقية عام 1921 تحت الوصاية البريطانية التي جاء الدستور والبرلمان وفق هواها بعد أن مهدت لإقامتهما كما هي الحال اليوم، فكان ماذا؟ حفظ لنا الأدب التاريخ فنقل قول معروف الرصافي معبراً عن حال الشعب ناقداً الحكومة الاسمية في أبيات أطول من هذه:
سأقول فيها ما أقول ولن أخف * من أن يقولوا شاعر مُتَطَرِّفُ
ويبدو أن القاعدة وجماعة الزرقاوي لم تعرفا في ذلك العصر أو لايجيء عليهما وزن الأبيات فاكتفى بأعظم التهم في زمانه التي تطلق على المناضلين المقاومين للاحتلال من المجاهدين ألا وهي التطرف! ثم أردف مبيناً:
هذي حكومتنا وكل شُموخها * كَذِب وكل صنيعها متكلَّفُ
عَلَم ودستور ومجلس أمة * كل عن المعنى الصحيح محرف
أسماء ليس لنا سوى ألفاظها * أما معانيها فليست تعرف
مَن يقرأ الدستور يعلمْ أنه * وَفقاً لصكّ الانتداب مصنَّف
من يأتِ مجلسنا يُصَدِّق إنه * لمُراد غير الناخبين مؤلَّف
أفهكذا تبقى الحكومة عندنا * كلماً تموَّه للورى وتُزخرَف
للإنجليز مطامع ببلادكم * لا تنتهي إلاّ بأن تتبلشفُوا
أفتقنعون من الحكومة باسمها * ويفوتكم في الأمر أن تتصرّفوا
أنتم عليها والأجانب فوقكم * كلّ بسلطته عليكم مُشرِف
أيُعَدّ فخراً للوزير جلوسه * فَرِحاً على الكرسيّ وهو مُكتَّف
إن دام هذا في البلاد فإنه * بدوامه لسيوفنا مُسترعِف
لا بُدّ من يوم يطول عليكم * فيه الحساب كما يطول المَوْقفُ
ولما قرر الانتداب البريطاني تخريج دفعة من الضباط العراقيين وتنصيبهم في مناصب قيادية وعسكرية كما يفعل الأمريكان في الوقت الراهن قال:
وكم عند الحكومة من رجالٍ تراهم سادة وهم العبيدُ
كلاب للأجانب هُم و لكِنْ على أبناء جِلدتهم أسودُ
وبمثل هذا النفس كانت المقاومة الصادقة تشتعل فكان من الطبيعي ألا يدوم الأمر للمتغلب فما مرت ثلاثة عقود حتى اجتاحت المقاومة عام 1958 أرجاء العراق قاطعة أذناب الاستعمار ليعلن انسحابه ذليلاً. وفي صورة أُراها شبيهة بصورة انهيار تمثال صدام توجهت الحشود الجمة إلى تمثال الجنرال [مود] لتجعله جذاذا تحت الأقدام.
وهكذا خرج المحتل من العراق نهائياً بعد زهاء ثلاثة عقود من تشكيله حكومته العربية، وكذلك أخرج من سائر أرجاء الأرض العربية، وهكذا سوف يخرج المحتل اليوم بعد ثلاثة عقود من تشكيله حكومته أو قبلها.
¥