واستمر هذا الواقع عدة قرون، والعالم الإسلامي ينحدر كل يوم، وأعداؤه يتقوون على حسابه، ويتحولون من الدفاع إلى الهجوم، ويقتطعون كل يوم قطعة من العالم الإسلامي، يستذلونها ويستعبدونها، ويحاولون القضاء على الإسلام فيها ..
ثم استيقظ العالم الإسلامي على الصدمة، حين وجد كل شيء في داخله ينهار ويقع في قبضة الأعداء.
لقد كان الانهيار نتيجة طبيعية لكل ما حدث من انحراف خلال القرون.
الخواء الذي أصاب مفهوم لا إله إلا الله. الخواء الذي أصاب مفهوم العبادة. السلبية المتواكلة المريضة. الانصراف عن وسائل القوة التي أمر الله بإعدادها لأعداء الله.
ولكن الصدمة العنيفة - الموازية في شدتها لشدة الخواء - أحدثت هزيمة داخلية عنيفة لم يفق منها " المسلمون المعاصرون " بعد، إلا الذين رجعوا إلى حقيقة هذا الدين، ومارسوا تلك الحقيقة في عالم الواقع .. تلك الهزيمة الروحية هي التي مهدت في نفوسهم لتقبل الغزو الفكري بلا مناقشة ولا تدبر ولا تفكير ..
ومن بين المفاهيم الضالة التي أدخلها الغزو الفكري في قلوبهم ورءوسهم مفهوم الحضارة وعمارة الأرض.
لقد توهموا - بتأثير الغزو الفكري - أنهم تأخروا لأنهم كانوا مسلمين!
وما أبعد هذا الوهم عن الحقيقة! فيوم تأخروا ما كان أبعدهم يومئذ عن الإسلام! وإن بعدهم عن حقيقة الإسلام لهو الذي أدى بهم إلى ذلك التخلف المعيب ().
ولكن هذا الوهم جعلهم يبحثون عن الحلول لا في إسلامهم - الذي انسلخوا منه - وإنما في الحضارة الغربية .. أي في الجاهلية المعاصرة!
وقالت لهم الجاهلية المعاصرة: إن الحضارة هي التقدم المادي والعلمي والتكنولوجي، والتيسيرات المادية التي تأخذ عن عاتق الإنسان ما كان يحمله من جهد فتحمّله للآلة، وما كان يحمله من ألم فتغيبه بالعقاقير!
وقالت لهم تلك الجاهلية - بلسان حالها وإن أنكرت في مقالها - إن القيم والأخلاق والمبادئ لغو ساقط من الحساب!
وقام " المسلمون المعاصرون " يتحضرون! قاموا ينفضون عن أنفسهم غبار التخلف، ويحاولون أن يعوضوا في سنوات ما تخلفوه خلال عدة قرون!
" يتحضرون " على النهج الغربي، منسلخين أو نافرين من منهج الله.
قاموا يأخذون ببعض أسباب القوة المادية - على فتور ظاهر وتقاعس - بينما يغرقون في الترف الغربي إلى أذقانهم، في صورة بيوت حديثة، وفراش وثير، وسيارات وطائرات، وأفران وثلاجات، وملابس مزوقة .. وخمر وميسر، وفوضى جنسية تسمى " الانطلاق "!
ودع عنك المفاسد الخلقية التي يقر الجميع بأنها مفاسد، وإن كانوا في دخيلة أنفسهم مسرورين بها، راغبين في المزيد منها، متطلعين إلى اليوم الذي تصبح فيه هي " العملة السارية "، فيمارسوا - باسم التحضر والتقدم - كل ما تصبو إليه نفوسهم من أرجاس ..
وخذ الجانب الحقيقي من التقدم المادي الذي يصبون إليه: عملية التصنيع، وزيادة الإنتاج، ورفع مستوى المعيشة، وزيادة الاستهلاك في الكهرباء (!)
ما قيمة ذلك كله بغير قيم ولا مبادئ ولا أخلاق؟! ما قيمته بغير " الإسلام " الذي انسلخوا منه ونبذوه؟!
هل يحسبون أنهم سيخرجون بذلك من ذلتهم وهوانهم على الناس؟!
فليسمعوا مقالة المؤرخ المعاصر " توينبي " عن تركيا أتاتورك:
" ولم يكتف الأتراك بتغيير دستورهم (وهو شيء سهل نسبيا في مجال الإصلاح الدستوري)، بل قامت الجمهورية التركية الوليدة بخلع المدافع عن الدين الإسلامي - الخليفة - وألغت منصبه - أي الخلافة - وجردت رجال الدين المسلمين وحلت منظماتهم، وأزالت الحجاب عن رأس المرأة، واستنكرت كل ما يرمز إليه الحجاب، وأجبرت الرجال على ارتداء القبعات التي تمنع لابسيها من أداء شعائر الصلاة الإسلامية التقليدية، بخاصة في السجود، وكنست () الشريعة الإسلامية بأكملها، وتبنت القانون المدني السويسري بعد أن ترجمته إلى التركية، وطبقت قانون الجرائم الإيطالي، وذلك بفرض هذين القانونين بعد التصويت عليهما في المجلس الوطني، وغيرت الأحرف العربية بأحرف لاتينية، وهذا أمر لم يتم إلا بطرح القسم الأكبر من التراث الأدبي العثماني القديم ..
¥