" .. ويجب على المراقب الغربي أن يراعي حدود اللياقة فلا يغالط ولا يسخر، لأن ما يحاول " المقلدون " الأتراك القيام به هو تغيير وطنهم ومواطنيهم مما هم فيه، إلى حالة كنا نحن - منذ التقاء الغرب بالإسلام - ننتقدهم لعدم وجودها طبيعة فيهم. وها هم حاولوا - ولو متأخرين - إقامة صورة طبق الأصل لدولة غربية وشعب غربي.
" وعندما ندرك تماما هدفهم الذي رموا إليه، لا نستطيع إلا التساؤل بحيرة: هل يبرر هذا الهدف حقا الجهد الذي بذلوه في صراعهم لبلوغه؟؟؟
" من المؤكد أننا لم نكن نحب التركي التقليدي المسلم " المتحمس " الذي كان يثير حنقنا عندما ينظر إلينا من علٍ على أننا فريسيون زناديق! ويحمد - أي التركي - يحمد الله على أنه لم يجعله مثلنا. وبما أن التركي التقليدي القديم كان يعتبر نفسه من طينة خاصة، حاولنا أن نحط من كبريائه، بتصوير هذه " الطينة الخاصة " شيئا ممقوتا، وسميناه " التركي النكرة " .. إلى أن استطعنا أخيرا أن نحطم سلاحه النفسي، وحرضناه على القيام بهذه الثورة (المقلدة) التي استهلكها الآن أمام أعيننا.
" والآن وبعد أن تغير التركي بتحريضنا ورقابتنا، وبعد أن أصبح يفتش عن كل وسيلة لجعل نفسه مماثلا لنا وللشعوب الغربية من حوله .. الآن نحس نحن بالضيق والحرج، بل ونميل إلى الشعور بالسخط والحنق ... وبإمكان التركي أن يجيبنا أنه مهما فعل فهو مخطئ في نظرنا، وهو - أي التركي - قادر على ترديد مقطع من كتابنا المقدس على مسامعنا، يقول:
" لقد نفخنا معكم في القرب فلم ترقصوا، وحزنا معكم فلم ترقصوا، وحزنا معكم فلم تبكوا "!
" على كل حال قد يكون انتقادنا للأتراك فظا وغير لائق .. ولكن ليس فيه أي تحامل، ولا هو خارج عن الموضوع. إذ ما الذي سيكسبه التراث الحضاري في حالة عدم ذهاب جهود الأتراك سدى؟ أي في حالة نجاحهم - فرضا - النجاح المرجو؟؟ وهذه النقطة تكشف حركة " المقلدين " عن نقطتي ضعفها الأصيلتين فيها:
" أولاهما: أن الحركة المقلدة متبعة وليست مخترعة مبتدعة، لذا ففي حالة نجاحها - جدلا - لن تزيد إلا في كمية المصنوعات التي تنتجها الآلة في المجتمعات المقلَّدة، بدل أن تطلق شيئا من الطاقة المبدعة في النفس البشرية.
" ثانيهما: أنه في حالة النجاح الباهت - المفترض - هذا، وهو أقصى ما يمكن " للمقلدين " الوصول إليه، سيكون هناك خلاص - مجرد خلاص - لأقلية ضئيلة في أي مجتمع تبنى طريق " التقليد " .. ومآل الغالبية: هو تضخيم عدد بروليتاريا الحضارة المقلَّدة " () (يقصد بذلك المستعبدين للحضارة الغربية)!
إنها الزراية الصريحة، والشماتة الصليبية الواضحة. الشماتة بالذين فقدوا ذاتيتهم، وعجزوا في الوقت ذاته عن تقديم شيء أصيل للبشرية.
والمسلمون الحقيقيون عندهم الكثير الكثير يعطونه للبشرية الضالة في جاهلية القرن العشرين ..
فليأخذوا العمارة المادية للأرض من أي مكان يريدون. ولكن فليقيموها على المنهج الرباني، لينشئوا الحضارة الحقيقية الأصيلة التي تستحق هذا الاسم.
فليأخذوا العلم والتقدم المادي والتكنولوجي، ولكن فليحددوا لأي شيء يستخدمون هذا كله ..
في العبودية الذليلة للشهوات؟ في الاستغراق في الحياة الدنيا إلى حد نسيان الآخرة؟ في عبادة الشيطان بدلا من عبادة الله؟
عندئذ لا هم سيخلصون أنفسهم من الهوان والذل. ولا هم يملكون أن يخلصوا البشرية من الضياع والتيه ..
لكن يستخدمونه في إقامة المنهج الرباني؟ .. في إعادة شريعة الله لتحكم الأرض؟ .. في إقامة العدل الرباني كما يريده الله؟ في إقامة الحياة على قاعدة أخلاقية في السياسة والاقتصاد وعلاقات المجتمع وعلاقات الأسرة وعلاقات الجنسين والفكر والأدب والفن .. ؟
بعبارة أخرى: يحققون غاية الوجود الإنساني؟ يحققون لا إله إلا الله في عالم الواقع؟ يحققون المفهوم الصحيح للعبادة؟
عندئذ سيخلصون أنفسهم مما حل بهم، ويمدون يد الخلاص إلى البشرية الضالة الضائعة التي تبحث عن طريق الخلاص.
وليس ذلك على الله بعزيز:
(وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً) ().
(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) ().
(الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ).
عن كتاب " مفاهيم "
وجزاكم الله خيراً