أحدهما أن اللفظ أنما يدل على الخلد وهو أعم من الدوام الذي ى انقطاع له فإنه في اللغة المكث الطويل ومكث كل شيء بحسبه ومنه قولهم رجل مخلد إذا أسن وكبر ومنه قولهم لاثا في الصخور خوالد لطول بقائها بعد دروس الاطلال قال
الارمادا هامدا دفعت **عنه الرياح خوالد الفحم
ونظير هذا أطلاقهم القديم على ما تقادم عهده وإن كان له أول كما قال تعالى كالعرجون القديم وإنك لفي ضلالك القديم وأفك قديم وقد أطلق تعالى الخلود في النار على عذاب بعض العصاة كقاتل النفس واطلقه النبي على قاتل نفسه
الوجه الثاني أن العلم بانقطاع الدنيا ومجئ الآخرة أنما يعلم الوحي ولم يتقدم لآدم عليه الصلاة والسلام نبوة يعلم بها ذلك وهو وأن نباه الله سبحانه وتعالى وأوحى إليه وأنزل عليه صحفا كما في حديث أبي ذر لكن هذا بعد اهباطه إلى الأرض بنص القرآن قال تعالى اهبطوا منها جميعا فاما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى وكذلك في سورة البقرة قلنا أهبطوا منها جميعا فأما يأتينكم مني هدى الآية
وإما قولكم أن الجنة وردت معرفة باللام التي للعهد فتنصرف إلى جنة الخلد فقد وردت معرفة باللام غير مراد بها جنة الخلد قطعا كقوله تعالى إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة إذ اقسموا ليصرمنها مصبحين وقولكم أن السياق ها هنا دل على أنها جنة في الأرض قلنا والأدلة التي ذكرناها دلت على أن جنة آدم عليه السلام في الأرض فلذلك صرنا إلى موجبها إذ لا يجوز تعطيل دلالة الدليل الصحيح
وإما استدلالكم بأثر أبي موسى أن الله أخرج آدم عليه السلام من الجنة وزوده من ثمارها فليس فيه زيادة على ما دل عليه القرآن إلا تزوده منها وهذا لا يقتضي أن تكون جنة الخلد
وقولكم أن هذه تتغير وتلك لا تتغير فمن أين لكم أن الجنة التي اسكنها آدم كان التغير يعرض لثمارها كما يعرض لهذه الثمار وقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي أنه قال لولا بنو إسرائيل لم يخبز اللحم أي لم يتغير ولم ينتن وقد أبقى سبحانه وتعالى
في هذا العالم طعام العزير وشرابه مائة سنة لم يتغير
وأما قولكم أن الله سبحانه وتعالى ضمن لآدم عليه السلام أن تاب أن يعيده إلى الجنة فلا ريب أن الأمر كذلك ولكن ليس يعلم أن الضمان إنما يتناول عوده إلى تلك الجنة بعينها بل إذا أعاده إلى جنة الخلد فقد وفى سبحانه بضمانه حق الوفاء ولفظ العود لا يستلزم الرجوع إلى عين الحالة الأولى ولا زمانها ولا مكانها بل ولا إلى نظيرها كما قال شعيب لقومه قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وقد جعل الله سبحانه المظاهر عائدا بإرادته الوطء ثانيا أو بنفس الوطء أو بالإمساك وكل منها غير الأول لا عينه فهذا ما أجابت به هذه الطائفة لمن نازعها
الباب السادس في جواب من زعم أنها جنة الخلد عما احتج به منازعوهم
قالوا أما قولكم إن الله سبحانه أخبر أن جنة الخلد إنما يقع الدخول إليها يوم القيامة ولم يأت زمن دخولها بعد فهذا حق في الدخول المطلق الذي هو دخول استقرار ودوام وأما الدخول العارض فيقع قبل يوم القيامة وقد دخل النبي الجنة ليلة الإسراء وأرواح المؤمنين والشهداء في البرزخ في الجنة وهذا غير الدخول الذي اخبر الله به في يوم القيامة فدخول الخلود إنما يكون يوم القيامة فمن أين لكم أن مطلق الدخول لا يكون في الدنيا وبهذا خرج الجواب عن استدلالكم بكونها دار المقامة ودار الخلد قالوا وأما احتجاجكم بسائر الوجوه التي ذكرتموها في الجنة وأنها لم توجد في جنة آدم عليه السلام من العرى والنصب والحزن واللغو والكذب وغيرها فهذا كله حق لا ننكره نحن ولا أحد من أهل الإسلام ولكن هذا إذا دخلها المؤمنون يوم القيامة كما يدل عليه سياق الآيات كلها فإن نفي ذلك مقرون بدخول المؤمنين إياها وهذا لا ينفي أن يكون فيها بين أبوي الثقلين ما حكاه الله سبحانه وتعالى من ذلك ثم يصير الأمر عند دخول المؤمنين إياها إلى ما أخبر الله عنها فلا تنافي بين الأمرين وأما قولكم أنها دار جزاء وثواب لا دار تكليف وقد كلف الله سبحانه آدم بالنهي عن الأكل من تلك الشجرة فدل على أن تلك الجنة دار تكليف لا دار خلود فجوابه من وجهين أحدهما أنه إنما تمتنع أن تكون دار تكليف إذا دخلها المؤمنين يوم القيامة فحينئذ ينقطع التكليف
¥