تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

فهذا يدلُّ على أنَّ الدارقطنيّ يرجح رواية سليمان بن حرب على رواية هؤلاء النفر، وفيهم من ذكرتُ من الحفاظ، وهذا يخالفُ القاعدة الكليَّة التي وضعها علماءُ الحديث في تعريف الشاذ، ولكن هذه القاعدة قد تتخلف أحيانًا لقرائن تكون عند الناقد، ولعل من القرائن التي اعتمد عليها الدارقطني في ترجيح رواية سليمان وحده أنه كان ذا خصوصيةٍ في حماد بن زيدٍ. فقد ذكر يعقوب بن سفيان في "المعرفة والتاريخ" (170/ 1) عن سليمان بن حربٍ قال: "اختلفت إلى شعبة، فلما مات جالستُ حماد بن زيد ولزمته حتى مات، جالستْهُ تسع عشرة سنة". ومن القرائن أيضًا الأخذ بالأقل عند الاختلاف، والأقلُّ أن يكون موقوفًا لا مرفوعًا، إنما أقولُ هذا تخريجًا لصنيع الدارقطنيّ رحمه الله، وإلا فالصواب عندي هو تقديم رواية الجماعة على روايته وحده، لا سيما وقد نقل الترمذي عن شيخه قتيبة بن سعيد أنه قال: قال حمادٌ: لا أدري، هذا من قول النبيّ صلي الله عليه وسلم أو من قول أبي أمامة؟ فدلَّنا ذلك على أن الذي شك في رفعه أو في وقفه إنما هو حماد بن زيد فتلقَّاهُ عنه الجماعة مرفوعًا، وسليمانُ بن حربٍ موقوفًا، وإذ الأمرُ كذلك فلا داعي لنصب الخلاف بين الرواة عن حمادٍ، ولا داعي أيضًا لقول سليمان ابن حرب فيما ذكره البيهقيّ إذ قال: "الأذنان من الرأس إنما هو من قول أبي أمامة، فمن قال غير هذا، فقد بدَّل، أو كلمة قالها سليمانُ، أي: أخطأ" انتهى، لأنه من العسير أن يهم أو يخطئ هذا الجمع الغفير من الثقات، ويتواطئوا على التبديل.

فهذا هو مرادُ أبي داود من التعليق على هذا الحديث. والله أعلم.

أما الحكمُ على الحديث، فهو الضعفُ، وقد قال الترمذيُّ عقبهُ: "ليس إسنادُهُ بذاك القائم" وسنان بن ربيعة وشهر بن حوشب متكلمٌّ فيهما ولا يصحُّ في مسح المأقين حديث مرفوع. والمأق، ويقال أيضًا: الماق بلا همزٍ والموق: طرفُ العين الذي يلي الأنف.

وكذلك: "الأذنان من الرأس" قد رُوي مرفوعًا عن جماعةٍ من الصحابة ولا يصح منها شيئٌ كما جزم بذلك جماعةٌ من النقاد، والصوابُ أنه موقوف وقد استوفى شيخنا الألباني رحمه الله أحاديث هؤلاء الصحابة في "سلسلة الأحاديث الصحيحة" (رقم36) ورجح الرفع لإسنادٍ وجده في "المعجم الكبير" للطبرانيّ وقال: "وهذا سندٌ صحيحٌ، رجالُهُ كلهم ثقات ولا أعلمُ له علَّةً .. " وصحح الحديث وحكى عن بعض العلماء القول بأنه متواتر ولكني وقفتُ على علَّته، فإذا هي المخالفة كما ذكرتُهُ في "نوح الهديل بكشف ما في سنن أبي داود من التذييل" والحمد لله.

**************

ويسألْ القارئ: م ع أ فيقول: هل ثبت عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال: "لا يتمنى أحدُكم الموت لضر أصابه أو نزل به". فإذا صحَّ فكيف دعا الإمام البخاري على نفسه بالموت مع ثبوت هذا الحديث؟

والجواب بحول الملك الوهاب:

أن هذا الحديث صحيحٌ.

وقد ثبت من حديث أنسٍ، وأبي هريرة، وخباب بن الأرت رضي الله عنهم، وله شواهد عن آخرين من الصحابة في أسانيدها مقالٌ.

أمَّا كيف دعا الإمام البخاريُّ على نفسه، فلا بد من معرفة القصة على وجهها فاعلم أيها المسترشد أنه ثارت في أيام الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله فتنةٌ عمياء، وداهيةٌ دهياء، وفكرةٌ صلعاء، ألا وهي فتنةُ خلق القرآن ووقف لها جمعٌ من العلماء الربانيين وعلى رأسهم الإمامُ أحمد، حتى كسر الله عز وجل بهم شوكة الجهمية، فحوروا مرادهم بطريقة أخرى وهو أنهم قالوا: "لفظي بالقرآن مخلوق" و"اللَّفظ" كلمة مجملةٌ فقد يقصد بها الملفوظ وهو القرآن وقد يُقصد بها حركة اللسان فوقف الإمامُ أحمد ومحمد بن يحىى الذهلي مع جماعةٍ من أهل العلم لهذه البدعة الجديدة بالمرصاد، فلما أراد البخاريُّ رحمه الله أن يدخل نيسابور، قال عالمُها وفاضلُها محمد بن يحىى الذهلي أحدُ مشايخ البخاري: إن العبد الصالح محمد بن إسماعيل سيأتينا غدًا، فمن أراد أن يستقبله، فإني مستقبلُهُ فاستقبله الناس على ثلاثة فراسخ، ونثروا الحلوى على رؤوس الناس ابتهاجًا بمقدم هذا العبد الصالح، ونزل في دار البخاريين في نيسابور، ثم بدأ يعقد مجالس الإملاء.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير