الغرض من «فتح الباري». ومعنى معتجرات: مختمرات، كما جاء موضحًا في رواية البخاري المذكورة آنفًا، فترى عائشة رضي اللَّه عنها مع علمها وفهمها وتقاها، أثنت عليهن هذا الثناء العظيم، وصرّحت بأنها ما رأت أشدّ منهن تصديقًا بكتاب اللَّه، ولا إيمانًا بالتنزيل، وهو دليل واضح على أن فهمهنّ لزوم ستر الوجوه من قوله تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ}، من تصديقهن بكتاب اللَّه وإيمانهن بتنزيله، وهو صريح في أن احتجاب النساء عن الرجال وسترهن وجوههن تصديق بكتاب اللَّه وإيمان بتنزيله، كما ترى. فالعجب كل العجب، ممن يدّعي من المنتسبين للعلم أنه لم يرد في الكتاب ولا السنّة ما يدلّ على ستر المرأة وجهها عن الأجانب، مع أن الصحابيات فعلن ذلك ممتثلات أمر اللَّه في كتابه إيمانًا بتنزيله، ومعنى هذا ثابت في الصحيح، كما تقدم عن البخاري. وهذا من أعظم الأدلّة وأصرحها في لزوم الحجاب لجميع نساء المسلمين، كما ترى.
وقال ابن كثير رحمه اللَّه في تفسيره: وقال البزار أيضًا: حدّثنا محمد بن المثنى، حدّثني عمرو بن عاصم، حدّثنا همام، عن قتادة، عن مورق، عن أبي الأحوص، عن عبد اللَّه رضي اللَّه عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال: «إن المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان، وأقرب ما تكون بروحة ربّها وهي في قعر بيتها»، ورواه الترمذي عن بندار، عن عمرو بن عاصم به نحوه، اه منه.
وقد ذكر هذا الحديث صاحب «مجمع الزوائد»، وقال: رواه الطبراني في «الكبير»، ورجاله موثقون، وهذا الحديث يعتضد بجميع ما ذكرنا من الأدلّة، وما جاء فيه من كون المرأة عورة، يدلّ على الحجاب للزوم ستر كل ما يصدق عليه اسم العورة.
ومما يؤيّد ذلك: ما ذكر الهيثمي أيضًا في «مجمع الزوائد»، عن ابن مسعود قال: إنما النساء عورة، وإن المرأة لتخرج من بيتها وما بها من بأس فيستشرفها الشيطان، فيقول: إنك لا تمرّين بأحد إلا أعجبتيه، وإن المرأة لتلبس ثيابها فقال: أين تريدين؟ فتقول: أعود مريضًا أو أشهد جنازة، أو أصلي في مسجد، وما عبدت امرأة ربها، مثل أن تعبده في بيتها، ثم قال: رواه الطبراني في «الكبير»، ورجاله ثقات، اه منه. ومثله له حكم الرفع إذ لا مجال للرأي فيه.
ومن الأدلّة الدالَّة على ذلك الأحاديث التي قدّمناها، الدالَّة على أن صلاة المرأة في بيتها خير لها من صلاتها في المساجد، كما أوضحناه في سورة «النور»، في الكلام على قوله تعالى: {يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوّ وَالاْصَالِ رِجَالٌ}، والأحاديث بمثل ذلك كثيرة جدًا، وفيما ذكرنا كفاية لمن يريد الحقُّ.
فقد ذكرنا الآيات القرءانيّة الدالَّة على ذلك، والأحاديث الصحيحة الدالَّة على الحجاب، وبيَّنا أن من أصرحها في ذلك آية «النور»، مع تفسير الصحابة لها، وهي قوله تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ}، فقد أوضحنا غير بعيد تفسير الصحابة لها، والنبيّ صلى الله عليه وسلم موجود بينهم ينزل عليه الوحي، بأن المراد بها يدخل فيه ستر الوجه وتغطيته عن الرجال، وأن ستر المرأة وجهها عمل بالقرءان، كما قالته عائشة رضي اللَّه عنها.
وإذا علمت أن هذا القدر من الأدلّة على عموم الحجاب يكفي المنصف، فسنذكر لك أجوبة أهل العلم، عمّا استدلّ به الذين قالوا بجواز إبداء المرأة وجهها ويديها، بحضرة الأجانب.
يتبع بإذن الله تعالى
ـ[عبدالرحمن الفقيه]ــــــــ[31 - 03 - 05, 09:31 م]ـ
فمن الأحاديث التي استدلّوا بها على ذلك حديث خالد بن دريك عن عائشة رضي اللَّه عنها: أن أسماء بنت أبي بكر دخلت على النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعليها ثياب رقاق فأعرض عنها، وقال: «يا أسماء، إن المرأة إذا بلغت الحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا»، وأشار إلى وجهه وكفّيه؛ وهذا الحديث يجاب عنه بأنه ضعيف من جهتين:
الأولى: هي كونه مرسلاً؛ لأن خالد بن دريك لم يسمع من عائشة، كما قاله أبو داود، وأبو حاتم الرازي كما قدّمناه في سورة «النور».
الجهة الثانية: أن في إسناده سعيد بن بشير الأزدي مولاهم، قال فيه في «التقريب»: ضعيف، مع أنه مردود بما ذكرنا من الأدلّة على عموم الحجاب، ومع أنه لو قدر ثبوته قد يحمل على أنه كان قبل الأمر بالحجاب.
¥