- الثاني: من أسباب مايروى من هجر الإمام أحمد للحارث حتى الموت، هو ما تعقب به شيخ الإسلام ابن تيمية أبي حامد حيث قال [درء تعارض العقل والنقل 7/ 147]: "قلت هجران أحمد للحارث لم يكن لهذا السبب الذي ذكره أبوحامد، وإنما هجره لأنه كان على قول ابن كلاب الذي وافق المعتزلة على صحة طريق الحركات ... " ثم قال: "وهذا هو المعروف عند من له خبرة بكلام أحمد من أصحابه وغيرهم من علماء أهل الحديث والسنة، ولأبي عبدالله الحسين والد أبي القاسم الخرقي صاحب المختصر المشهور كتاب في قصص من هجره أحمد، سأل فيه أبي بكر المروزي عن ذلك فأجابه عن قصصهم واحداً واحداً" [7/ 148]، ولعل الباحث يلحظ أن كلام شيخ الإسلام لم يكن جزافاً بل وقع الكتاب في يده ولهذا نقل في الاستقامة عنه شيئاً مما أشار إليه هنا ببعض تفصيل [ينظر الاستقامة ص206]. ثم قال شيخ الإسلام: "وذكر ذلك أيضاً [يعني أن سبب الهجر هو الذي أشار إليه] أبوبكر الخلال في كتاب السنة، وقد ذكر ذلك ابن خزيمة وغيره ممن يعرف حقيقة هذه الأمور" ولعله يأتي النقل عن السنة [الدرء 7/ 148 وأيضاً تنظر النبوات له ص46]، وهذا الذي ذكره شيخ الإسلام هو التحقيق ولعل النصوص التالية يعرض فيها ما يبينه.
وهاكم بعض كلام الأئمة الذين فهموا وقرروا أن هجر أحمد للحارث إنما كان لأحد السببين المذكورين، ولن تجد فيهم واحداً يشير إلى أن السبب ما ذكرتم:
- قال الذهبي في السير (12/ 111 - 112): " قلت المحاسبي كبير القدر وقد دخل في شيء يسير من الكلام فنقم عليه وورد أن الإمام أحمد أثنى على حال الحارث من وجه وحذر منه".
- قال السبكي متعقباً ابن دقيق في طبقات الشافعية 1/ 165:"نبه شيخ الإسلام ابن دقيق العيد أن الخلاف بين كثير من الصوفية وأصحاب الحديث قد أوجب كلام بعضهم في بعض، كما تكلم بعضهم في الحارث المحاسبي وغيره.وهذا في الحقيقة داخل في قسم مخالفة العقائد". ملاحظة: لم أذكر قول العلامة ابن دقيق العيد في الأسباب التي ذكرت لظهور سقوطه فالمحاسبي لايقايس بأحمد وأبي زرعة ليعد ذلك من جملة كلام الأقران بعضهم في بعض.
- ذكر الخلال في كتاب السنة (ونقله ابن الجوزي في التلبيس أيضاً) عن أحمد بن حنبل أنه قال حذروا من الحارث أشد التحذير الحارث أصل البلية ـ يعني في حوادث كلام جهم ـ ذاك جالسه فلان وفلان وأخرجهم إلى رأي جهم ما زال مأوى أصحاب الكلام، حارث بمنزلة الأسد المرابط انظر أي يوم يثب على الناس.
- وقال ابن الجوزي في المنتظم: " كان الإمام أحمد بن حنبل ينكر على الحارث المحاسبي خوضه في الكلام، ويصد الناس عنه، فهجره أحمد فاختفى في داره ببغداد، ومات فيها" [وهذا هو الأثر المعلق الذي اشار إلى ضعفه الذهبي]، ولكن أنت ترى من ذكره يذكر السبب وهو علم الكلام.
- وقال الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية: " وهذا الأصل هو مما أنكره الإمام أحمد على ابن كلاب وأصحابه حتى على الحارث المحاسبي مع جلالة قدر الحارث، وأمر أحمد بهجره وهجر الكلابية، وقال: احذروا من حارث، الآفة كلها من حارث، فمات الحارث وما صلى عليه إلا نفر قليل بسبب تحذير الإمام أحمد عنه، مع أن فيه من العلم والدين ما هو أفضل من عامة من وافق ابن كلاب على هذا الأصل".
- وقريباً من نقله السمعاني في الأنساب: " وكان أحمد بن حنبل يكره للحارث نظره في الكلام وتصانيفه الكتب فيه ويصد الناس عنه. وقال أبو القاسم النصراباذي: بلغني أن الحارث المحاسبي تكلم في شيء من الكلام فهره أحمد بن حنبل فاختفى في داره ببغداد ومات فيها".
فهذا كلامهم فيه كلهم يجعله من هذه الجهة إلاّ أنتم حفظكم الله فما هي حجتكم في أن أحمد هجره لتصوفه؟
الوجه الثالث: ما أنكره الإمام أحمد والإمام أبوزرعة على المحاسبي أنكره عليه أئمة التصوف أيضاً فهذا سري السقطي كان يحذر ابن أخته الجنيد بن محمد –رحمة الله على الجميع- من شقائق الحارث المحاسبي [ينظر درء التعارض 7/ 148]، فانظر كيف كان شيخ الصوفية سري يحذر مما كان يحذر منه أحمد بن حنبل وأبوزرعة رحمهم الله، فضلاً عن من جاء بعدهم عدوا ما كان عليه الحارث ذنباً تاب منه كمعمر بن زياد والكلابآذي على ما سيأتي.
¥