الثاني: تذكر ما أعده الله عز وجل لمن عصاه بالبرد والزمهرير، فإن شدة برد الدنيا يذكر بزمهرير جهنم، وفي الحديث الصحيح: "إن أشد ما تجدون من البرد من زمهرير جهنم"، فملاحظة هذا الألم الموعود يهوّن الإحساس بألم برد الماء كما روي عن زُبيد اليامي أنه قام ليلة للتهجد، وكان البرد شديداً، فلما أدخل يده في الإناء وجد شدة برده فذكر زمهرير جهنم فلم يشعر ببرد الماء بعد ذلك، وبقيت يده في الماء حتى أصبح، فقالت له جاريته: مالك لم تصل الليلة كما كنت تصلي؟!. فقال: إن لما وجدت شدة برد الماء ذكرت زمهرير جهنم فما شعرت به حتى أصبحت، فلا تخبري بهذا أحداً ما دمت حياً.
الثالث: ملاحظة جلال من أمر بالوضوء، ومطالعة عظمته وكبريائه، وتذكر التهيؤ للقيام بين يديه ومناجاته في الصلاة فذلك يهون كل ألم ينال العبد في طلب مرضاته من برد الماء وغيره، وربما لم يشعر بالماء بالكلية كما قال بعض العارفين: بالمعرفة هانت على العاملين العبادة.
[اختيار الأولى في شرح حديث اختصام الملأ الأعلى]
ابن رجب
الصفحة: 4
[اختيار الأولى في شرح حديث اختصام الملأ الأعلى]
ابن رجب
الصفحة: 5
قال سعيد بن عامر: بلغني إن إبراهيم الخليل) كان إذا توضأ سُمع لعظامه قعقعة. وكان علي بن الحسين إذا توضأ اصفرّ، فيقال له: ما هذا الذي يعتريك عند الوضوء؟!. فيقول أتدرون بين يدي من أريد أن أقوم له؟.
وكان منصور بن زاذان إذا فرغ من وضوئه يبكي حتى يرتفع صوته، فقيل له: ما شأنك؟! فقال: وأي شيء أعظم من شأني، إني أريد أن أقوم بين يدي من لا تأخذه سنة ولا نوم، فلعله يرضى عني. وكان عطاء السليمي إذا فرغ من وضوئه ارتعد وانتفض وبكى بكاءً شديداً، فقيل له في ذلك، فقال: إني أريد أن أتقدم إلى أمر عظيم: إني أريد أن أقوم بين يدي الله عز وجل.
الرابع: استحضار اطلاع الله عز وجل على عبده في حال العمل له، وتحمل المشاق لأجله، فمن تيقنّ أن البلاء بعين من يحبه هان عليه الألم كما أشار تعالى إلى ذلك بقوله عز وجل لنبيه):) واصبر لحُكمِ ربِّكَ فإنَّكَ بأعْيُنِنا (، وقوله تعالى لموسى وهارون عليهما السلام:) لا تخافآ إنَّني مَعَكُمآ أسمعُ وأرى (، وقال): "اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فهو يراك". قال أبو سليمان: قرأت في بعض الكتب: يقول الله عز وجل: "بعيني ما تحمل المتحملون من أجلي وكابد المتكبدون في طلب مرضاتي، فكيف بهم وقد صاروا في جواري، وتبحبحوا في رياض خُلدي؟ فهنالك فليبشر المصفُّون لله أعمالهم بالمنظر العجيب من الحبيب القريب، أترون أني أضيع لهم عملاً؟ فكيف وأنا أجود على المولين عني، فكيف بالمُقبلين عليّ؟! ".
فإسباغ الوضوء في البرد لا سيما في الليل يطلع الله عليه، ويرضى به، ويباهي به الملائكة، فاستحضار ذلك يهون ألم برد الماء، وفي المسند وصحيح ابن حبان عن عقبة بن عامر عن النبي) قال: "رجلان من أمتي يقوم أحدهما من الليل يعالج نفسه إلى الطهور وعليه عُقد فيتوضأ، فإذا وضّأ يديه انحلت عقدة، وإذا وضأ وجهه انحلّت عقدة، وإذا مسح برأسه انحلّت عقدة، وإذا وضّأ رجليه انحلّت عُقدة، فيقول الرب عز وجل للذي وراء الحجاب: انظروا إلى عبدي هذا يعالج نفسه يسألني، ما سألني عبدي هذا فهو له ... " وذكر بقية الحديث.
وروى عطية عن أبي سعيد عن النبي): "إن الله يضحك إلى ثلاثة نفر: رجل قام من جوف الليل فأحسن الطهور ... " وذكر الحديث. وكان بعض السلف له ورد بالليل ففتر عنه، فهتف به هاتف: بعين الله في الليل لما يصنع خُدّامه، إذا قاموا وحثّتهم على الخدمة أحكامه.
الخامس: الاستغراق من أمر بمحبة هذه الطاعة، وأنه يرضى بها ويحبها كما قال تعالى) إنَّ الله يُحِبُّ التَّوابينَ و يُحِبُّ المُتطهِّرينَ (، فمن امتلأ قلبه من محبة الله عز وجل أحب ما يحبه وإن شق على النفس وتألمت به، كما يقال: المحبة تهوّن الأثقال. وقال بعض السلف في مرضه: أحبه إليّ أَحبه إليه؟ وكما قيل: "فما الجرح إذا أرضاكم ألم" وكما قيل أيضاً:
في حُبِّكم يهونُ ما قدْ ألقى
يسعدُ بالنعيمِ منْ لا يشقى
من خدم من يحب تلذذ بشقائه في خدمته. وقال بعضهم: القلب المحب لله يحب النصب له. وقال عبد الصمد: أوجد لهم في عذابه عذوبةً.
¥