والفتن الصغار التي يبتلى بها المرء في أهله وماله وولده وجاره تكفرها الطاعات من الصلاة والصيام والصدقة كذا جاء في حديث حذيفة، وروي عنه أنه سأل النبي)، قال: إن في لساني ذرباً، وإن عامة ذلك على أهلي. فقال له: "أين أنت من الإستغفار؟! ".
وأما الفتن المضلة التي يخشى منها فساد الدين فهي التي يستعاذ منها، ويسأل الموت قبلها، فمن مات قبل وقوعه في شيء من هذه الفتن فقد حفظه الله تعالى وحماه، وفي المسند عن محمود بن لبيد عن النبي) قال: "اثنتان يكرههما ابن آدم: يكره الموت، والموت خير للمؤمن من الفتن، ويكره قلة المال، وقلة المال أقل للحساب".
قوله): "وأسألك حبك، وحب من يحبك، وحب العمل الذي يبلغني حبك". هذا الدعاء يجمع كل خير، فإن الأفعال الاختيارية من العباد إنما تنشأ عن محبة وإرادة، فإن كانت محبة الله ثابتة في قلب العبد نشأت عنها حركات الجوارح فكانت بحسب ما يحبه الله ويرتضيه، فأحب ما يحبه الله عز وجل من الأعمال والأقوال كلها، ففعل حينئذ الخيرات كلها وترك المنكرات كلها، وأحب من يحبه الله من خلقه، وهذا الدعاء كانت الأنبياء عليهم السلام يدعون به كما في الترمذي عن النبي) أن داود عليه السلام كان يقول: "اللهم إني أسألك حبك، وحب من يحبك، وحب عمل يبلغني إلى حبك، اللهم اجعل حبك أحب إلي من نفسي وأهلي ومن الماء البارد". وفيه أيضاً أن النبي) كان يدعو: "اللهم ارزقني حبك، وحب من يحبك، وحب عمل يبلغني إلى حبك، اللهم ما رزقتني مما أحب فاجعله قوة لي فيما تحب، وما زويت عني مما أحب فاجعله فراغاً لي فيما تحب". وفي حديث مرسل خرجه ابن أبي الدنيا وغيره أن النبي) كان يقول: "اللهم اجعل حبك أحب الأشياء إلي، وخشيتك أخوف الأشياء عندي، واقطع عني حاجات الدنيا بالشوق إلى لقائك، وإذا أقررت أعين أهل الدنيا من دنياهم فأقرر عيني من عبادتك".
[اختيار الأولى في شرح حديث اختصام الملأ الأعلى]
ابن رجب
الصفحة: 23
[اختيار الأولى في شرح حديث اختصام الملأ الأعلى]
ابن رجب
الصفحة: 24
ومن كان همه طلب محبة الله عز وجل أعطاه الله فوق ما يريده من الدنيا تبعاً، قال بعض السلف: لما توفي داود عليه السلام أرسل الله عز وجل إلى سليمان عليه السلام: ألك حاجة تسألني إياها؟. فقال سليمان: أسأل الله أن يجعل قلبي يحبه كما كان قلب أبي داود يحبه، وأن يجعل قلبي يخشاه كما كان قلب أبي داود يخشاه. فشكر الله له ذلك وأعطاه ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده.
ومحبة الله تعالى على درجتين: إحداهما: واجبة، وهي المحبة التي توجب للعبد محبة ما يحبه الله من الواجبات، وكراهة ما يكرهه من المحرمات، فإن المحبة التامة تقتضي الموافقة لمن يحبه في محبة ما يحبه، وكراهة ما يكرهه خصوصاً فيما يحبه ويكرهه من المحب نفسه فلا تصح المحبة بدون فعل ما يحبه المحبوب من محبة، وكراهة ما يكرهه المحبوب من محبة. وسئل بعض العارفين عن المحبة، فقال: الموافقة في جميع الأحوال. وأنشد:
ولو قلتَ لي: مُتْ. مُتْ سمعاً وطاعة
وقلتُ لداعي الموت: أهلاً ومرحبا
وأنشد بعضهم:
تعصى الإلهَ وتزعُمُ حبَّه
هذا لعمري في القياسِ شنيعُ
لو كان حبُّك صادقاً لأطعته
إن المحبَّ لمن يحبُّ مُطيعُ
ومتى أخل العبد ببعض الواجبات، أو ارتكب بعض المحرمات فمحبته لربه غير تامة، فالواجب عليه المبادرة بالتوبة، والاجتهاد في تكميل المحبة المفضية لفعل الواجبات كلها واجتناب المحرمات كلها، وهذا معنى قول النبي): "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن". فإن الإيمان الكامل يقتضي محبة ما يحبه الله، وكراهة ما يكرهه الله عز وجل والعمل بمقتضى ذلك، فلا يرتكب أحد شيئاً من المحرمات أو يخل بشيء من الواجبات إلا لتقديم هوى النفس المقتضي لارتكاب ذلك على محبة الله تعالى المقتضية لخلافه.
¥