ربي؟. قال: إذا كان ما يكرهه عندك أمر من الصبر. ثم بعد ذلك الاجتهاد في نوافل الطاعات، وترك دقائق المكروهات والمشتبهات.
ومن أعظم ما تحصل به محبة الله تعالى من النوافل: تلاوة القرآن، وخصوصاً مع التدبر، قال ابن مسعود: لا يسأل أحدكم عن نفسه إلا القرآن، فمن أحب القرآن فهو يحب الله ورسوله. ولهذا قال النبي) لمن قال: إني أحب سورة) قل هو الله أحد (لأنها صفة الرحمن. فقال: "أخبروه أن الله يحبه". وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن: لما قدم النبي) المدينة خطب، فقال في خطبته: "إن أحسن الحديث كتاب الله، قد أفلح من زينه الله في قلبه، وأدخله في الإسلام بعد الكفر، واختاره على ما سواه من الأحاديث، إنه أحسن الحديث وأبلغه، أحبوا من أحب الله، وأحبوا الله من كل قلوبكم".
وكان بعضهم يكثر تلاوة القرآن ثم فتر عن ذلك فرأى في المنام قائلاً يقول له:
إن كنت تزعم حُبِّي
فلِمَ جفوت كتابي
أما تدبّرت ما في
ه من لطيف عتابي
فاستيقظ وعاد إلى تلاوته.
ومن الأعمال التي توصل إلى محبة الله تعالى وهي من أعظم علامات المحبين: كثرة ذكر الله عز وجل بالقلب واللسان، قال بعضهم: ما أدمن أحد ذكر الله إلا وأفاد منه محبة الله تعالى. وقال ذو النون: من أدمن ذكر الله قذف الله في قلبه نور الاشتياق إليه. وقال بعض التابعين: علامة حب الله كثرة ذكره، فإنك لن تحب شيئاً إلا أكثرت ذكره. وقال فتح الموصلي: المحب لله لا يجد مع حب الله للدنيا لذة، ولا يغفل عن ذكر الله طرفة عين. المحبون إن نطقوا نطقوا بالذكر، وإن سكتوا اشتغلوا بالفكر:
فإن نطقتُ فلم ألفظ بغيركم
وإن سكتُّ فأنتم عند إضماري
ومن علامات المحبين لله وهو ما يحصل به المحبة أيضاً حب الخلوة بمناجاة الله تعالى، وخصوصاً في ظلمة الليل:
الليلُ لي ولأحبابي أسامرهم
قد اصطفيتهم كي يسمعوا ويعوا
[اختيار الأولى في شرح حديث اختصام الملأ الأعلى]
ابن رجب
الصفحة: 25
[اختيار الأولى في شرح حديث اختصام الملأ الأعلى]
ابن رجب
الصفحة: 26
قال الفضيل: يقول الله عز وجل: كذب من ادعى محبتي فإذا جنه الليل نام عني، أليس كل حبيب يجب الخلوة بحبيبه، ها أنا مطلع على أحبابي إذا جنهم الليل جعلت أبصارهم في قلوبهم، ومثلت نفسي بين أعينهم، فخاطبوني على المشاهدة، وكلموني على حضوري، غداً أقر عين أحبابي في جنتي:
تنامُ عيناك وتشكو الهوى
لو كنت صَبّاً لم تكن نائماً
قلوب المحبين جمرة تحت فحمة الليل، كلما هبّ عليها نسيم السحر التهبت، وأنشد:
يذكرني مَرُّ النسيم عهودَكم
فأزدادُ شوقاً كلما هبت الريحُ
أراني إذا ما أظلمَ الليلُ أشرقت
بقلبيَ من نارِ الغرام مصابيحُ
كلما جن الغاسق حن العاشق:
لو أنك أبصرت أهل الهوى
إذا غابت الأنجُمُ الطُلَّعُ
فهذا ينوح على ذنبه
وهذا يُصلي وذا يركعُ
من لم يكن له مثل تقواهم لم يدر ما الذي أبكاهم، ومن لم يشاهد جمال يوسف لم يدر ما الذي آلم قلب يعقوب. وسئل السري السقطي عن حاله فأنشد:
من لم يَبِت والحبُّ حشوُ فؤادِه
لم يدرِ كيف تُفتَّتُ الأكباد
أين رجال الليل؟! أين ابن أدهم والفضيل! ذهب الأبطال وبقي كل بطال، يا من رضي من الزهد بالزي، ومن الفقر بالاسم، ومن التصوف بالصوف، ومن التسبيح بالسبح، أين فضل "الفضيل"؟! أين جد "الجنيد"؟! أين سر "السري"؟! أين بشر "بشر"؟! أين همة "ابن أدهم"؟! ويحك إن لم تقدر على معرفة "معروف" فاندب على ربع "رابعة" وأنشد:
هاتيك رُبُوعهم وفيها كانوا
بانوا عنها فليتَهم ما بانوا
ناديتُ وفي حشاشتي نيرانُ:
يا دارُ متى تحوَّلَ السكانُ؟!
يا من كان له قلب فانقلب، يا من كان له وقت مع الله فذهب، قيام الأسحار يستوحش لك، صيام النهار يسأل عنك، ليالي الوصال تعاتبك على انقطاعك:
تشاغلتم عنّا بصُحبةِ غيرنا
وأظهرتم الهُجران ما هكذا كُنَّا
وأقسمتُمُ أن لا تحولوا عن الهوى
فقد وحياةِ حِلتم وما حِلنا
لياليَ كنا نجتني من ثماركم
فقلبي إلى تلك الليالي لقد حنّا
إخواني! مجالس الذكر شراب المحبين، وترياق المذنبين) قد عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مشربَهم (البقرة: 60، مجالس الذكر مآتم الأحزان، فهذا يبكي لذنوبه، وهذا يندب لعيوبه، وهذا يتأسف على فوات مطلوبه، وهذا يتلهف لإعراض محبوبه، وهذا يبوح بوجده، وهذا ينوح على فقده، وأنشد:
ما أذكرُ عيشنا الذي قد سلفا
إلا وجفَ القلبُ وكم قد وجفا
واهاً لزماننا الذي كان صفا
بل واأسفاً لفقده واأسفا
غيره:
يا ليتنا بزمزم والحِجْرِ
يا جيرتنا قُبيلَ يوم النَّفْرِ
فهل يعود ما مضى من عُمُري
ما كنت أدري يا ليتني لا أدري
كأني أرى الخلع خلعت على المقبولين، كأني أرى الملائكة تصافح التائبين، تعالوا نبكي على المطرودين:
ما زلتُ دهراً لِلِّقَا مُتعرِّضاً
ولطالما قد كُنتُ عنّا مُعرِضا
جانَبْتَنا دهراً فلما لم تجدْ
عِوضاً سوانا صِرتَ تبكي ما مضى
لو كنت لازمت الوقوفَ ببابنا
لَلبستَ من إحسانِنا خِلَع الرضا
لكن تركتَ حقوقَنا وهجرتنا
فلذاك ضاقَ عليكَ مُتَّسَعُ الفَضا
تم بحمد الله وحسن توفيقه.
[اختيار الأولى في شرح حديث اختصام الملأ الأعلى]
ابن رجب
الصفحة: 26