تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

قالوا: وإذا كان هذا في العقول، جاز أن ينقلب العالم من العدم إلى الوجود من غير فاعل، وإن امتنع هذا في بداية العقول، فكذلك تجدد إمكان الفعل وانقلابه من الامتناع الذاتي إلى الإمكان الذاتي بلا سبب، وأما أن يكون هذا ممكناً، وذاك ممتنعاً، فليس في العقول ما يقتضي بذلك.

قالوا:والتسلسل لفظ مجمل لم يرد بنفيه ولا إثباته كتاب ناطق، ولا سنة متبعة فيجب مراعاة لفظه، وهو ينقسم إلى واجب وممتنع وممكن،فالتسلسل في المؤثرين محال ممتنع لذاته، وهو أن يكون بين مؤثرين كل واحد منهما استفاد تأثيره ممن قبله لا إلى غاية.

والتسلسل الواجب ما دل عليه العقل والشرع من دوام أفعال الرب تعالى في الأبد وأنه كلما انقضى لأهل الجنة نعيم أحدث لهم نعيماً آخر لا نفاد له، وكذلك التسلسل في أفعاله سبحانه من طرف الأزل وأن كل فعل مسبوق بفعل آخر فهذا واجب في كلامه، لأنه لم يزل متكلماً إذا شاء، ولم تحدث له صفة الكلام في وقت، وهكذا أفعاله التي هي من لوازم حياته، فإن كل حي فعال، والفرق بين الحي والميت بالفعل، ولهذا قال غير واحد من السلف: الحي الفعال وقال عثمان بن سعيد:كل حي فعال، ولم يكن ربنا تبارك وتعالى قط في وقت من الأوقات المحققة او المقدرة معطلاً عن كماله من الكلام [والإرادة والفعل].

وأما التسلسل الممكن فالتسلسل في مفعولاته من هذا الطرف، كما يتسلسل في طرف الأبد، فإنه إذا لم يزل حياً قادراً مريداً متكلماً، وذلك من لوازم ذاته، فالفعل ممكن له بوجوب هذه الصفات له، وأن يفعل أكمل من أن لا يفعل، ولا يلزم من هذا أنه لم يزل الخلق معه، فإنه سبحانه متقدم على كل فرد فرد من مخلوقاته تقدماً لا أول له، فلكل مخلوق أول، والخالق سبحانه لا أول له، فهو وحده الخالق، وكل ما سواه مخلوق كائن بعد أن لم يكن.

قالوا: وكل قول سوى هذا فصريح العقل يرده، ويقضي ببطلانه، وكل من اعترف بأن الرب سبحانه لم يزل قادراً على الفعل لزمه أحد أمرين لابد له منهما، إما بأن يقول بأن الفعل لم يزل ممكناً، وإما ان يقول لم يزل واقعاً، وإلا تناقض تناقضاً بيناً، حيث زعم أن الرب سبحانه لم يزل قادراً على الفعل،والفعل محال ممتنع لذاته لو أراده لم يمكن وجوده، بل فرض إرادته عنده محال،

وهو مقدور له، وهذا قول يناقض بعضه بعضا.

وأجابت طائفة أخرى بالجواب المركب على جميع التقادير فقالوا: تسلسل الآثار إما أن يكون ممكناً أو ممتنعاً، فإن كان ممكناً فلا محذور في التزامه، وإن كان ممتنعاً لم يلزم من بطلانه بطلان الفعل الذي لا يكون المخلوق إلا به، فإنا نعلم أن المفعول المنفصل لا يكون إلا بفعل، والمخلوق لا يكون إلا بخلق قبل العلم بجواز التسلسل وبطلانه.

ولهذا كثير من الطوائف يقولون: الخلق غير المخلوق، والفعل غير المفعول، مع قولهم ببطلان التسلسل، مثل كثير من أتباع الأئمة الأربعة، وكثير من أهل الحديث والصوفية والمتكلمين، ثم من هؤلاء من يقول: الخلق – الذي هو التكوين – صفة قديمة كالإرادة، ومنهم من يقول: بل هي حادثة بعد أن لم تكن كالكلام والإرادة وهي قائمة بذاته سبحانه، وهم الكرامية ومن وافقهم، أثبتوا حدوثها وقيامها بذاته، وأبطلوا دوامها فراراً من القول بحوادث لا أول لها، وكلا الفريقين لا يقول ان ذلك التكوين والخلق مخلوق، بل يقول أن المخلوق وجد به كما وجد بالقدرة.

قالوا: فإذا كان القول بالتسلسل لازماً لكل من قال: إن الرب تعالى لم يزل قادراً على الخلق، يمكنه أن يفعل بلا ممانع فهو لازم لك، كما الزمته لخصومك، فلا ينفردون بجوابه دونك، وأما ما ألزموك به من وجود مفعول بلا فعل، ومخلوق بلا خلق، فهو لازم لك وحدك.

قالوا: ونحن إنما قلنا: الفعل صفة قائمة به سبحانه، وهو قادر عليه لا يمنعه منه مانع، والفعل القائم به ليس هو المخلوق المنفصل عنه، فلا يلزم أن يكون معه مخلوق في الأزل، إلا إذا ثبت أن الفعل اللازم يستلزم الفعل المتعدي، وأن المتعدي يستلزم دوام نوع المفعولات، ودوام نوعها يستلزم أن يكون معه سبحانه في الأزل شيء منها، وهذه الأمور لا سبيل لك ولا لغيرك إلى الاستدلال على ثبوتها كلها، وحينئذ فنقول: أي لازم لزم من إثبات فعله سبحانه كان القول به خيراً من نفي الفعل وتعطيله عنه.

فإن ثبت قيام فعله به من غير قيام الحوادث به، كما يقوله كثير من الناس، بطل قولكم، وإن لزم من إثبات فعله قيام الأمور الاختيارية به، والقول بانها مفتتحة ولها أول، فهو خير من قولكم، كما تقول الكرامية وإن لزم تسلسلها وعدم أوليتها في الأفعال اللازمة، فهو خير من قولكم، وإن لزم تسلسل الآثار وكونه سبحانه لم يزل خالقاً كما دل عليه النص والعقل فهو خير من قولكم، ولو قدر انه يلزم أن الخلق لم يزل مع الله قديماً بقدمه كان خيراً من قولكم، مع أن هذا لا يلزم، ولم يقل به أحد من أهل الإسلام، بل ولا أهل الملل، فكلهم متفقون على أن الله سبحانه وحده الخالق وكل ما سواه مخلوق موجود بعد عدمه، وليس معه غيره من المخلوقات يكون وجوده مساوياً لوجوده.

فما لزم بعد هذا من إثبات خلقه وامره وصفات كماله ونعوت جلاله، وكونه رب العالمين، وأن كماله المقدس من لوازم ذاته فإنا به قائلون، وله ملتزمون، كما أنا ملتزمون لكل ما لزم من كونه حيا عليما قديراً سميعاً بصيراً متكلماً آمراً ناهياً، فوق عرشه، بائن من خلقه، يراه المؤمنون بأبصارهم عياناً في الجنة، وفي عرصات القيامة، ويكلمهم ويكلمونه، فإن هذا حق، ولازم الحق مثله، وما لم يلزم من إثبات ذلك من الباطل الذي تتخيله خفافيش العقول فنحن له منكرون، وعن القول به عادلون، وبالله التوفيق.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير