وأما قول القائل اذا كان كريا والله من ورائه محيط به بائن عنه فما فائدة أن العبد يتوجه الى الله حين دعائه وعبادته فيقصد العلو دون التحت فلا فرق حينئذ وقت الدعاء بين قصد جهة العلو وغيرها من الجهات التى تحيط الداعى ومع هذا نجد فى قلوبنا قصدا يطلب العلو لا يلتفت يمنة ولا يسرة فاخبرونا عن هذه الضرورة التى نجدها فى قلوبنا وقد فطرنا عليها
فيقال له هذا السؤال انما ورد لتوهم المتوهم ان نصف الفلك يكون تحت الارض وتحت ما على وجه الارض من الآدميين والبهائم وهذا غلط عظيم فلو كان الفلك تحت الأرض من جهة لكان تحتها من كل جهة فكان يلزم أن يكون الفلك تحت الأرض مطلقا وهذا قلب للحقائق اذ الفلك هو فوق الارض مطلقا
و أهل الهيئة يقولون لو أن الأرض مخروقة الى ناحية ارجلنا والقى فى الخرق شىء ثقيل كالحجر ونحوه لكان ينتهى الى المركز حتى لو ألقى من تلك الناحية حجر آخر لالتقيا جميعا فى المركز ولو قدر أن انسانين التقيا فى المركز بدل الحجرين لالتقت رجلاهما ولم يكن أحدهما تحت صاحبه بل كلاهما فوق المركز وكلاهما تحت الفلك كالمشرق والمغرب فانه لو قدر أن رجلا بالمشرق فى السماء أو الأرض ورجلا بالمغرب فى السماء أو الأرض لم يكن أحدهما تحت الآخر وسواء كان رأسه أو رجلاه أو بطنه أو ظهره أو جانبه مما يلى السماء أو مما يلى الارض واذا كان مطلوب أحدهما ما فوق الفلك لم يطلبه الا من الجهة العليا لم يطلبه من جهة رجليه أو يمينه أو يساره لوجهين
أحدهما أن مطلوبه من الجهة العليا أقرب اليه من جميع الجهات فلو قدر رجل أو ملك يصعد الى السماء أو الى ما فوق كان صعوده مما يلى رأسه أقرب اذا أمكنه ذلك ولا يقول عاقل أنه يخرق الأرض ثم يصعد من تلك الناحية ولا أنه يذهب يمينا أو شمالا أو اماما أو خلفا الى حيث أمكن من الأرض ثم يصعد لأنه أى مكان ذهب اليه كان بمنزلة مكانه أو هو دونه وكان الفلك فوقه فيكون ذهابه الى الجهات الخمس تطويلا وتعبا من غير فائدة
ولو أن رجلا أراد أن يخاطب الشمس والقمر فانه لا يخاطبه الا من الجهة العليا مع أن الشمس والقمر قد تشرق وقد تغرب فتنحرف عن سمت الرأس فكيف بمن هو فوق كل شىء دائما لا يأفل ولا يغيب سبحانه وتعالى وكما أن الحركة كحركة الحجر تطلب مركزها بأقصر طريق وهو الخط المستقيم فالطلب الارادى الذى يقوم بقلوب العباد كيف يعدل عن الصراط المستقيم القريب الى طريق منحرف طويل والله تعالى فطر عباده على الصحة والاستقامة الا من اجتالته الشياطين فأخرجته عن فطرته التى فطر عليها
الوجه الثانى أنه اذا قصد السفل بلا علو كان ينتهى قصده الى المركز وان قصده امامه أو وراءه أو يمينه أو يساره من غير قصد العلو كان منتهى قصده أجزاء الهواء فلابد له من قصد العلو ضرورة سواء قصد مع ذلك هذه الجهات أو لم يقصدها
ولو فرض أنه قال أقصده من اليمين مع العلو أو من السفل مع العلو كان هذا بمنزلة من يقول أريد أن أحج من المغرب فأذهب الى خراسان ثم أذهب الى مكة بل بمنزلة من يقول أصعد الى الافلاك فأنزل فى الارض ثم أصعد الى الفلك من الناحية الاخرى فهذا وان كان ممكنا فى المقدور لكنه مستحيل من جهةامتناع ارادة القاصد له وهو مخالف للفطرة فان القاصد يطلب مقصوده بأقرب طريق لا سيما اذا كان مقصوده معبوده الذى يعبده ويتوكل عليه واذا توجه اليه على غير الصراط المستقيم كان سيره منكوسا معكوسا
و أيضا فان هذا يجمع فى سيره وقصده بين النفى والاثبات بين أن يتقرب الى المقصود ويتباعد عنه ويريده وينفر عنه فانه اذا توجه اليه من الوجه الذى هو عنه أبعد وأقصى وعدل عن الوجه الاقرب الادنى كان جامعا بين قصدين متناقضين فلا يكون قصده له تاما اذ القصد التام ينفى نقيضه وضده وهذا معلوم بالفطرة
فان الشخص اذا كان يحب النبى محبة تامة ويقصده أو يحب غيره ممن يحب سواء كانت محبته محمودة أو مذمومة متى كانت المحبة تامة وطلب المحبوب طلبه من أقرب طريق يصل اليه بخلاف ما اذا كانت المحبة مترددة مثل أن يحب ما تكره محبته فى الدين فتبقى شهوته تدعوه الى قصده وعقله ينهاه عن ذلك فتراه يقصده من طريق بعيد كما تقول العامة رجل الى قدام ورجل الى خلف
وكذلك اذا كان فى دينه نقص وعقله يأمره بقصد المسجد أو الجهاد أو غير ذلك من القصودات التى تحب فى الدين وتكرهها النفس فانه يبقى قاصدا لذلك من طريق بعيد متباطئا فى السير وهذا كله معلوم بالفطرة ...
المجد السادس صفحة570 وفي كلامه تتمة.
وله كلام كثير عن ذلك في الفتاوي