تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

[زلة الكبير كبيرة]

ـ[أبو نعيم الدمشقي]ــــــــ[03 - 05 - 05, 09:05 ص]ـ

أقض مضجعي منذ أيام ما سمعته من فم أستاذ جامعي كبير وهو يحاضر في طلاب أحد المعاهد الشرعية بدمشق من تصحيح لحديث اتفق علماء الحديث على أنه موضوع مكذوب على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الحديث الذي أورده داود بن المحبّر في كتاب العقل ـ وهو موضوع كله ـ: «أول ما خلق الله العقل ...... » (1).

وكان المحاضر قد ذكر الحديث في محاضرته، ولما روجع فيه وذكر له ما يقوله علماء الحديث عنه، صرّح بأنه ثابت صحيح، وأنه لا يلتفت إلى كلام هؤلاء الذين يضعفونه ... ؟!!

وهالني ما سمعت وأحدث في نفسي رجّة عنيفة، وبقيت ليلتها حتى ساعة متأخرة أقلّب وجوه النظر في ما حدث، لعلي أجد له تفسيراً، وكدت أتخيل أني واهم لولا أن جمهوراً عريضاً من الطلاب والأساتذة سمعوا ما سمعت في اليقظة لا في الأحلام. وليس المستغرب أن يغلط العالم أو يتوهم، ولو كان دكتوراً كبيراً كفضيلة الدكتور وهبة الزحيلي سدّده الله، فلا عصمة لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وليس المستغرب ـ وإن كان غريباً ـ أن يجري حديث موضوع على لسان عالم أو يخطّه قلم كاتب، فالعلم لم يحط به أحد، وقد يظن المتكلم أو المؤلف صحيحاً ما ليس بصحيح لوهم يعتريه أو خطأ يقع فيه، وإن كان مؤاخذاً، لأن حق العالم أن يتثبت لا أن يكون حاطب ليل يحمل الغث والسمين.

ولكن الغرابة كل الغرابة أن يذكّر العالم بما أخطأ فيه أو سها فلا يتذكر ولا يتراجع بل يلجّ في الباطل ويمعن في الخطأ ويدعي ما لا علم له به فيصحح الموضوع ويكذب الصحيح (2)، وإن من يتجرأ على الأولى لا يبعد أن ينتهك الثانية، فهما رذيلتان متقابلتان.

وهذا خرق للعهد الذي كانت كل طبقة من علمائنا تأخذه على من بعدها، وهو أن يديم المجاز التثبت وأن يقول فيما لا يعلمه: لا أدري، وكانت لا تخلو منه إجازة من الإجازات التي يصفونها الآن بإجازات البركة، لا إجازة فخمة كالدكتوراة، يحملها أصحاب المنهج العلمي والأصول (الأكاديمية)؟!!.

وهذا الإمام الغزالي حجة الإسلام رحمه الله، ذكر في كتبه عدداً ليس باليسير من الأحاديث الضعيفة والموضوعة، تابع فيها من رواها، لكنه لم يصحح حديثاً موضوعاً ولم يكذب صحيحاً، بل ترك هذا لأئمة هذا الشان ونقاده، وقد أخبر عن نفسه أن بضاعته في الحديث مزجاة.

وكيف يتصور ذلك من المسلم فضلاً عن العالم وهو يسمع قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار».

وعدت إلى نفسي أتفكر وأتدبر واهتديت إلى سرٍّ خفي على كثير ممن يعاني في نفسه أمر هذه الأمة ويبحث عن أسباب ما صارت إليه، وما أفرزته هذه الحياة العلمية الأدبية الفاسدة التي نعيشها.

لقد عرفت وأيقنت أن السكوت عن الحق في موقف كهذا جريمة لا تغتفر في حق الدين الذي نحن مؤتمنون عليه، وفي حق العلم الذي نتباهى بتحصيل شهاداته وحمل ألقابه، وفي حق الأمة التي تتطلع إلى علمائها وتتخذ من أقوالهم وأفعالهم ونطقهم وسكوتهم حجة فيما بينها وبين الله.

لقد أدركت أن صعاليك العلم ومحترفي الدسّ والتزوير في الشرع واللغة والتاريخ ما كان لهم أن يخرجوا في هذه الأمة هازئين بعقيدتها لاعبين بشريعتها متجرئين على جميع الحقائق حتى ولو كانت حقيقة الفرق بين التوحيد والتثليث، والإيمان والكفر، لو كانت الأمة ما تزال هي الأمة التي يقول أحد أفرادها للخليفة عمر رضي الله عنه ـ وما أدراك من عمر ـ (والله لنقومنك بسيوفنا) فلا أحد أكبر من الحق، ولا فساد أشنع من فساد العلم وضياع الحق مجاملة للشخص وإرضاء لكبريائه.

لقد أصبحنا نعيش جاهلية العلم فضلاً عن جاهلية الحكم فيثور أحدنا إذا سمع طالب علم مبتدئاً أخطأ في لفظة أو خلط في حكم أو سها في رواية، ولكنه يخرس عندما يصدر الجهل أو الضلال من الكبير، بل يحرص على أن لا يظهر على محيّاه شيء يدل على ما عرفه في سريرته، لئلا يخدش كبرياء الشخص وعظمة اللقب، هذا إذا لم يلهج لسانه بالثناء على ما سمع من الباطل ويطلب من المتكلم أن يتحفه بالمزيد؟؟، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها».

نعم إن التغاضي والرضى عن زلاّت الكبار وانحرافاتهم أحياناً هو الذي جرّأ الصعاليك على الهجوم على ثوابت الأمة في عقيدتها وشريعتها، بعدما رأوا وسمعوا كيف تطمس الحقائق ويداس عليها إرضاءً لأولئك الكبار، فلماذا لا يكونون كباراً ولتنته فترة الصعلكة الفكرية التي يحيونها لتبدأ فترة الفرعنة العلمية ودكترة الكراسي والعروش.

ألا هل بلّغت اللهم فاشهد.

السبت 23 صفر 1426 هـ


(1) - انظر حال هذا الحديث الموضوع وكلام العلماء فيه في ركن (فتاوى حديثيّة) في الموقع.

(2) - وقد سمعت المحاضر نفسه يرد حديثاً صحيحاً في مناقشة إحدى الرسائل الجامعية بجامعة دمشق وهو حديث: «ما رأيت من ناقصات عقل ودين ......... » الذي أخرجه البخاري، ولكن أحداً من الحضور لم ينبس ببنت شفة إجلالاً للأستاذ الكبير!!.

كتبه الشيخ عبد القادر الخطيب الحسني

http://www.fostat.com/fostat1/news.php?action=view&id=44&9d34b30f1e77f41eccaacddecdc0006d
¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير