فإذا عرفنا أن توثيق ابن معين لأبي حنيفة لم يصح، نذكر أنه قد صح عنه تضعيف حديث أبي حنيفة. قال ابن أبي مريم –كما في الكامل لابن عدي (8
236) –: سألت يحيى بن معين عن أبي حنيفة، فقال: «لا يكتب حديثه». وقال محمد بن عثمان بن أبي شيبة –كما في الضعفاء للعقيلي (4
285) –: سمعت يحيى بن معين وسئل عن أبي حنيفة، قال: «كان يضعف في الحديث». وقال محمد بن حماد المقرئ –كما في تاريخ بغداد (13
445) –: وسألت يحيى بن معين عن أبي حنيفة، فقال: «وإيش كان عند أبي حنيفة من الحديث حتى تسأل عنه؟!».
وعلى فرض صحة روايات التوثيق (وقد رأيت أنها لا تصح مطلقاً)، فيجاب عليها بأن ابن معين مشهور ميله لأبي حنيفة واستحسانه لرأيه، ولعل هذا التوثيق كان في أول أمر يحيى بن معين، ثم اطلع بعد ذلك على ما له من أوهام وأخطاء فضعفه في الحديث.
قال الإمام علي بن المديني: «أبو حنيفة روى عنه الثوري وابن المبارك، وهو ثقة لا بأس به». وقد جاء عنه التضعيف كذلك. إذ قال عبد الله بن علي بن عبد الله المديني –كما في تاريخ بغداد (13
450) –: وسألت –يعني أباه– عن أبي حنيفة صاحب الرأي، فضعفه جداً، وقال: «لو كان بين يَدَيّ ما سألته عن شيء». وروى خمسين حديثاً أخطأ فيها. انتهى.
قال المعلمي في التنكيل (1
358) جواباً عن توثيق علي بن المديني لأبي حنيفة: «كان من دعاة المحنة حنفية، وكانوا ينسبون مقالتهم التي امتحنوا الناس فيها إلى أبي حنيفة، ويدعون إلى مذهبه في الفقه، كما مرت الإشارة إلى طرف منه في ترجمة سفيان الثوري، فكأنهم استكرهوا ابن المديني على أن يثني على أبي حنيفة ويوثقه فاضطر إلى أن يوافقهم. وقد يكون ورّى فقصد بكلمة "ثقة" معنى أنه لم يكذب، ثم لما سأله ابنه أخبره بما يعتقد».
تضعيف أبي حنيفة:
يجب من الأول أن نفهم سبب تشدد السلف على الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه. فإن من منهج أهل السنة والجماعة أن الرجل إذا زل في بعض المواضع فإننا نستر عليه ذلك فإذا اشتهر نحذر من تلك الأخطاء والزلات دون أن نهدر عدالته. لكن زاد الكثير من العلماء على هذا أن من كثرت زلاته وجب إسقاطه مهما بلغت مكانته العلمية لأن هذا أسهل من التحذير من هذه الأخطاء. وكثير من هذا الطعن في أبي حنيفة تجد مثله في غيره من العلماء بما فيهم مالك والشافعي. لكن الذي حمى مالك من أن يسقطه أهل الحديث كونه يحتاج إليه جداً في الكثير من الأحاديث. وهذا أوضحه ابن عبد البر ببحث طويل في "جامع بيان العلم وفضله" وكذلك في "الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء" ليس هذا مكان ذكره.
نقل العلامة المعلمي اليماني في كتابه "التنكيل بما في مقالات الكوثري من الأباطيل" مواقف شديدة لبعض أئمة السلف من الإمام أبي حنيفة والتي كان يستدل بها الكوثري، وعلق عليها المعلمي اليماني أن من مذاهب السلف في إسقاط أخطاء الفقهاء: مذهب بإسقاط صاحب الأخطاء الكثيرة وتنفير الناس منه حتى لا يتبعوه، حتى لو كانوا يقرون بفضله على الأمة. وهذا ما نقمه الكوثري على بعض الأئمة المتقدمين لكون بعضهم عمل على إسقاط الإمام أبي حنيفة رحمه الله.
ومذهب آخر بالترحم على أهل الفضل من العلماء الذين يقعون في أخطاء علمية، مع تعقب أخطائهم فقط حتى لا يقع فيها الناس. إلا أن هذا المذهب قد يشتد في الإنكار لعظم الخطأ في بعض المسائل، مع إبقاء أصل الاحترام مع نقل ذلك. فالصحابة رضي الله عنهم أجمعين ومن بعدهم من أئمة التابعين وغيرهم من السلف، لم ينقطع بينهم الولاء والقتال في صف واحد. ومع ذلك كانوا لا يتساهلوا فيما يمكن أن يحرف دين الأمة.
ومثال ذلك و الأمثلة كثيرة: ما جاء في صحيح مسلم من قول ابن الزبير لابن عباس –وهو من هو– حبر الامة، وفضله على الأمة جاري حتى الآن، وعلم ابن الزبير لا يقارن بعلم ابن عباس. قال له بخصوص مسألة زواج المتعة: «أفعل بنفسك (يقصد زواج المتعة) ولأرجمنك بأحجارك». رضي الله عنهم أجمعين. و قد كان يحدث بينهم ذلك لان الأمر كان عندهم دين يجب صيانته من التحريف. لكن لا يأتي أحد ويقيم ابن عباس من قول ابن الزبير عنه. فهذا غلط.
¥