والطريقة الصحيحة في البيان أن تحذف وهي طريقة [القرآن بخلاف ما يدعيه الجهال الذين يظنون أن القرآن ليس فيه طريقة] برهانية بخلاف ما قد يشتبه ويقع فيه نزاع فإنه يبينه ويدل عليه
ولما كان الشرك في الربوبية معلوم الأمتناع عند الناس كلهم باعتبار اثبات خالقين متماثلين في الصفات والافعال وإنما ذهب بعض المشركين إلى أن ثم خالقا خلق بعض العالم كما يقوله الثنوية في الظلمة وكما يقوله القدرية في أفعال الحيوان وكما يقوله الفلاسفه الدهرية في حركة الأفلاك أو حركات النفوس أو الأجسام الطبيعية فإن هؤلاء يثبتون أمورا محدثة بدون أحداث الله إياها فهم مشركون في بعض الربوبية وكثير من مشركي العرب وغيرهم قد يظن في آلهته شيئا من نفع أوضر بدون أن يخلق الله ذلك
فلما كان هذا الشرك في الربوبية موجودا في الناس بين القرآن بطلانه كما في قوله تعالى: {ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض} فتأمل هذا البرهان الباهر بهذا اللفظ الوجيز الظاهر فإن الإله الحق لا بد أن يكون خالقا فاعلا يوصل إلى عابده النفع ويدفع عنه الضر فلو كان معه سبحانه إله آخر يشركه في ملكه لكان له خلق وفعل وحينئذ فلا يرضى تلك الشركة بل أن قدر على قهر ذلك الشريك وتفرده بالملك والإلهية دونه فعل وإن لم يقدر على ذلك انفرد [بخلقه وذهب بذلك الخلق كما ينفرد ملوك الدنيا بعضهم عن بعض بملكه إذا لم يقدر المنفرد] منهم على قهر الآخر والعلو عليه فلا بد من أحد ثلاثة آمور:
أما أن يذهب كل إله بخلقه وسلطانه
واما أن يعلو بعضهم على بعض
واما أن يكونوا تحت قهر ملك واحد يتصرف فيهم كيف يشاء ولا يتصرفون فيه بل يكون وحده هو الإله وهم العبيد المربوبون المقهورون من كل وجه
وانتظام أمر العالم كله واحكام أمره من أدل دليل على أن مدبره إله واحد وملك واحد ورب واحد لا إله للخلق غيره ولا رب لهم سواه كما قد دل [دليل] التمانع على أن خالق العالم واحد لا رب غيره ولا إله سواه فذلك تمانع في الفعل والإيجاد وهذا تمانع في العبادة والإلهية فكما يستحيل أن يكون للعالم ربان خالقان متكافئان كذلك يستحيل أن يكون [لهم] إلهان معبودان
فالعلم بأن وجود العالم عن صانعين متماثلين ممتنع لذاته مستقر في الفطر معلوم بصريح العقل بطلانه فكذا تبطل إلهية اثنين فالآية الكريمة موافقة لما ثبت واستقر في الفطر من توحيد الربوبية دالة مثبتة مستلزمة لتوحيد الإلهية
وقريب من معنى هذه الآية قوله تعالى: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} وقد ظن طوائف أن هذا دليل التمانع الذي تقدم ذكره وهو أنه لو كان للعالم صانعان الخ وغفلوا عن مضمون الآية فإنه سبحانه أخبر أنه لو كان فيهما آلهة غيره ولم يقل أرباب
وأيضا فإن هذا إنما هو بعد وجودهما وأنه لو كان فيهما وهما موجودتان آلهة سواه لفسدتا
وأيضا فإنه قال: (لفسدتا) وهذا فساد بعد الوجود ولم يقل: لم يوجدا ودلت الآية على أنه لا يجوز أن يكون فيهما آلهة متعددة بل لا يكون الإله إلا واحد وعلى أنه لا يجوز أن يكون هذا الإله الواحد إلا الله سبحانه وتعالى وأن فساد السموات والأرض يلزم من كون الآلهة فيهما متعددة ومن كون الإله الواحد غير الله وأنه لا صلاح لهما إلا بأن يكون الإله فيهما هو الله وحده لا غيره فلو كان للعالم إلهان معبودان لفسد نظامه كله فإن قيامه إنما هو بالعدل وبه قامت السموات والارض
وأظلم الظلم على الاطلاق الشرك وأعدل العدل التوحيد
وتوحيد الإلهية متضمن لتوحيد الربوبية دون العكس فمن لا يقدر على أن يخلق يكون عاجزا والعاجز لا يصلح أن يكون إلها قال تعالى: {أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون} وقال تعالى: {أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون} وقال تعالى: {قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا}))