ولقد استنبط الحافظ في الفتح 7/ 384 الدعاء على المشركين بالتعميم من قصة خبيب بن عدي رضي الله عنه، حيث دعا فقال: " اللهم احصهم عددا، واقتلهم بددا، ولا تبق منهم أحدا "؛ وهي دعوة في زمن الوحي ولم تُنكر، والعبرة بعموم لفظها لا بخصوص سببها.
وفي قول الله تعالى: {{وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا، إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا}}. نصٌ على أن هذه الدعوة من شرع نوح، ولذا استجابها الله عزوجل، ولو كانت خطيئة أو تعديا لبين الله تعالى ذلك، ولم يقره على الخطأ، كما هو الحال في معاتبة الله له لما دعا لولده، وأما إخباره سبحانه لنوح بأنه لن يومن غير من آمن فليس فيه أنه لو لم يخبره سبحانه لما جاز له الدعاء فلا تلازم بين الأمر الشرعي والأمر الكوني كما سيأتي،
وقد حرر الحافظ ابن حجر في " الفتح " أن نوحا يعتذر يوم الموقف بأمرين:
الأول: أنه استنفد الدعوة التي له، إذ كل نبي له دعوة مستجابة، ولذا قال: إنه كانت لي دعوة دعوتها على قومي.
ثانيا: دعاؤه لابنه، وهذه هي الخطيئة التي أشار إليها في حديث أنس رضي الله عنه.
وقد قرر العلماء أن النبي صلى الله عليه وسلم أُعطي مثل دعوة نوح عليه السلام، ولكنه لم يستنفدها، بل ادخرها للأمة في الآخرة.، وفي الصحيحين من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: [ .... قال ملك الجبال: يا محمد: إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال، قد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك، فما شئت؟ إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا].
ورحم الله تعالى ابن تيمية، فإنه لما ذكر المسألة على جهة البحث - كما في الفتاوى 8/ 336 قال: " ثم ننظر في شرعنا هل نسخه أم لا؟.اه.
ولعل فيما ذكره ابن حجر من الاستدلال بعموم دعاء خبيب ما يدلك على أن شرعنا لم ينسخ هذه الدعوة.
حجج المخالف:
*قال بعضهم: إن الدعاء على الكافرين بالهلاك طعن في الحكمة الإلهية، إذ قضى الله كونا أن يبقوا! ودل الدليل على بقائهم إلى قيام الساعة.
هذا الكلام غلط لوجوه:
الأول: أن هذا احتجاج بالقدر على الشرع، وهذا باطل، فالقدر علم الله وكتابته ومشيئته وخلقه، والشرع وظيفة العبد المكلف. وهذا الاحتجاج هو عمدة القائلين بالتقريب بين الأديان في زماننا!، فهم يقولون: " ليس من أهداف الإسلام أن يفرض نفسه على الناس فرضا حتى يكون هو الديانة العالمية الوحيدة، إذ أن كل ذلك محاولة فاشلة، ومقاومة لسنة الوجود، ومعاندة للإرادة الإلهية " هذا كلام د. وهبة الزحيلي في كتابه " آثار الحرب "، وقد أجاد الدكتور الشيخ أحمد بن عبد الرحمن القاضي في كتابه " دعوة التقريب بين الأديان: دراسة نقدية في ضوء العقيدة الإسلامية".
الثاني: لو كان الدعاء بالتعميم طعنا في الحكمة الإلهية لنزه الله تعالى أنبياءه ورسله من الوقوع فيه، فنوح عليه السلام وهو من أولي العزم كيف يطعن في الحكمة الإلهية بالدعاء على الكفار، وغيره يوفق للسلامة؟!! وما كان طعنا في الحكمة الإلهية الآن فهو طعن في الحكمة الإلهية زمن نوح، إذ لا تختلف الشرائع في ذلك.
الثالث: احتج القرافي - رحمه الله تعالى - في " الفروق " على أنه لا يجوز الدعاء " اللهم اغفر للمسلمين جميع ذنوبهم " بأن الأحاديث جاءت بدخول طائفة من المسلمين النار بذنوبهم، ففي الدعاء تكذيب لتلك الأحاديث ... "
فرد ابن المشاط على القرافي هذا القول في كتابه " إدرار الشروق على أنوار الفروق " فقال: " لقد كلف هذا الإنسان نفسه شططا، و ادعى دواعي لا دليل عليها ولا حاجة إليها وهما منه وغلطا، وما المانع من أن يكلف الله تعالى خلقه أن يطلبوا منه المغفرة لذنوب كل واحد من المؤمنين مع أنه قضى بأن منهم من لا يغفر له؟!! ومن أين تَلزم المنافاة بين طلب المغفرة ووجوب نقيضها؟! هذا أمر لا أعرف له وجها إلا مجرد التحكم بمحض التوهم ... اه.
**وقال بعضهم: " إن الدعاء على الكفار بإهلاك أموالهم بالتعميم فيه معارضة لآثار أسماء الله تعالى ".
وهذا غلط لوجوه:
الأول: أن آثار أسماء الله تعالى تكون في الخلق والأمر، فالخلق هو الأمر الكوني، والأمر هو الأمر الشرعي.
فالرازق اسم من أسماء الله تعالى يتعلق أثره بالخلق فيرزق جميع خلقه، كما يتعلق أثره بالأمر كما في قوله تعالى {{ومن يتق الله يجعل له مخرجا، ويرزقه من حيث لا يحتسب}}.
فالخلط بين الآثار المترتبة على الأمر الكوني والأمر الشرعي خطأ بين، وتقدم.
قال ابن القيم في " مدارج السالكين ": " وأنت إذا فرضت الحيوان بجملته معدوما، فمن يرزق الرازق سبحانه؟!
وإذا فرضت المعصية والخطيئة منتفية عن العالم، فلمن يغفر؟! وعمّن يعفو؟! وعلى من يتوب ويحلم؟!
وإذا فرضت الفاقات سُدّت، والعبيد أغنياء معافون، فأين السؤال والتضرع والابتهال، والإجابة، وشهود الفضل والمنة، والتخصيص بالإنعام والإكرام؟! اه.
الثاني: أن في ذلك لازما شنيعا وهو استجهال من هو من أولي العزم من الرسل! فموسى عليه الصلاة والسلام دعا بقطع أرزاق الكافرين، فهل أنكر بذلك آثار اسم الله تعالى الرزاق؟!!
ورسولنا صلى الله عليه وسلم دعا بذلك، فهل يُقال فيه ذلك؟!! سبحانك هذا بهتان عظيم.
الثالث: مما يبطل هذا القول أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام دعا ربه: {{وارزق أهله من الثمرات من آمن بالله واليوم الآخر}} فهذا هو الدعاء المشروع، إذْ لا يشرع أن يقول مؤمن بالله واليوم الآخر ابتداء: اللهم ارزق المؤمنين والكافرين!.
وعليه فنحن اليوم ندعو على اليهود والنصارى فنقول " اللهم احصهم عددا، واقتلهم بددا، ولا تبق منهم أحدا، اللهم اشدد وطأتك عليهم، واجعلها عليهم سنين كسني يوسف"، وهذا الدعاء هو المناسب لأحوال الأمة الإسلامية مع هؤلاء الأرجاس وما يكيدونه للمسلمين والإسلام.
وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين
¥