والقول الذي عليه جمهور الناس وهو الموافق للاثار المنقولة عن السلف اثبات العصمة من الا قرار على الذنوب مطلقا والرد على من يقول انه يجوز اقرارهم عليها وحجج القائلين بالعصمة اذا حررت انما تدل على هذا القول
وحجج النفاة لا تدل عل على وقوع ذنب اقر عليه الانبياء فان القائلين بالعصمة احتجوا بأن التأسي بهم مشروع وذلك لا يجوز الا مع تجويز كون الافعال ذنوبا ومعلوم ان التأسي بهم انما هو مشروع فيما اقروا عليه دون ما نهوا عنه ورجعوا عنه كما ان الامر والنهي انما تجب طاعتهم فيما لم ينسخ منه فأما ما نسخ من الامر والنهي فلا يجوز جعله مأمورا به ولا منهيا عنه فضلا عن وجوب اتباعه والطاعة فيه
وكذلك ما احتجوا به من ان الذنوب تنافى الكمال او انها ممن عظمت عليه النعمة اقبح او انها توجب التنفير او نحو ذلك من الحجج العقلية فهذا انما يكون مع البقاء على ذلك وعدم الرجوع والا فالتوبة النصوح التى يقبلها الله يرفع بها صاحبها الى اعظم مما كان عليه كما قال بعض السلف كان داود عليه السلام بعد التوبة خيرا منه قبل الخطيئة وقال آخر لو لم تكن التوبة احب الاشياء اليه لما ابتلى بالذنب اكرم الخلق عليه وقد ثبت فى الصحاح حديث التوبة (لله افرح بتوبة عبده من رجل نزل منزلا (الخ
وقد قال تعالى (ان الله يحب التوابين ويحب المتطهرين) وقال تعالى (الا من تاب وآمن وعمل صالحا فأولئك يبدل الله سيآتهم حسنات) وقد ثبت فى الصحيح حديث الذي يعرض الله صغار ذنوبه ويخبأ عنه كبارها وهو مشفق من كبارها ان تظهر فيقول الله له (اني قد غفرتها لك وابدلتك مكان كل سيئة حسنة فيقول اى رب ان لي سيئات لم ارها (اذا رأى تبديل السيئآت بالحسنات طلب رؤية الذنوب الكبار التى كان مشفقا منها ان تظهر ومعلوم ان حاله هذه مع هذا التبديل اعظم من حاله لو لم يقع السيئات ولا التبديل ... ).
و قال رحمه الله (والله تعالى لم يذكر فى القرآن شيئا من ذلك عن نبي من الانبياء الا مقرونا بالتوبة والاستغفار كقول آدم وزوجته (ربنا ظلمنا انفسنا وان لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين) وقول نوح (رب انى اعوذ بك ان اسألك ما ليس لي به علم والا تغفر لى وترحمنى اكن من الخاسرين) وقوله الخليل عليه السلام (ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب) وقوله (والذي اطمع ان يغفر لي خطيئتى يوم الدين) وقول موسى (انت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وانت خير الغافرين واكتب لنا فى هذه الدنيا حسنة وفى الاخرة انا هدنا اليك) وقوله (رب انى ظلمت نفسي فاغفر لي) وقوله فلما افاق قال سبحانك تبت اليك وانا اول المؤمنين) وقوله تعالى عن داود (فاستغفر ربه وخر راكعا واناب فغفرنا له ذلك وان له عندنا لزلفى وحسن مآب) وقوله تعالى عن سليمان (رب اغفرلي وهب لي ملكا لا ينبغي لاحد من بعدى انك انت الوهاب)
واما يوسف الصديق فلم يذكر الله عنه ذنبا فلهذا لم يذكر الله عنه ما يناسب الذنب من الاستغفار بل قال (كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء انه من عبادنا المخلصين) فاخبر انه صرف عنه السوء والفحشاء وهذا يدل على انه لم يصدر منه سوء ولا فحشاء
واما قوله (ولقد همت به وهم بها لولا ان راى برهان ربه فالهم اسم جنس تحته (نوعان (كما قال الامام احمد الهم همان هم خطرات وهم اصرار وقد ثبت في الصحيح عن النبى (ان العبد اذا هم بسيئة لم تكتب عليه واذا تركها لله كتبت له حسنة وان عملها كتبت له سيئة واحدة (وان تركها من غير ان يتركها لله لم تكتب له حسنة ولا تكتب عليه سيئة ويوسف هم هما تركه الله ولذلك صرف الله عنه السوء والفحشاء لا خلاصه وذلك إنما يكون إذا قام المقتضى للذنب وهو الهم وعارضه الإخلاص الموجب لانصراف القلب عن الذنب لله
فيوسف عليه السلام لم يصدر منه الا حسنة يثاب عليها وقال تعالى (ان الذين اتقوا اذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فاذا هم مبصرون) ... ).
و قال رحمه الله (وَاتَّفَقَ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُكَفَّرُ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ الْمُنَازِعِينَ فِي عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ , وَاَلَّذِينَ قَالُوا: إنَّهُ يَجُوزُ عَلَيْهِمْ الصَّغَائِرُ وَالْخَطَأُ وَلَا يُقِرُّونَ عَلَى ذَلِكَ لَمْ يَكْفُرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ; فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: إنَّهُمْ مَعْصُومُونَ مِنْ الْإِقْرَارِ عَلَى ذَلِكَ , وَلَوْ كَفَرَ هَؤُلَاءِ لَزِمَ تَكْفِيرُ كَثِيرٍ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ , وَالْمَالِكِيَّةِ , وَالْحَنَفِيَّةِ , وَالْحَنْبَلِيَّةِ , وَالْأَشْعَرِيَّةِ , وَأَهْلِ الْحَدِيثِ , وَالتَّفْسِيرِ , وَالصُّوفِيَّةِ: الَّذِينَ لَيْسُوا كُفَّارًا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ; بَلْ أَئِمَّةُ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ بِذَلِكَ ... )
و قال رحمه الله (الوجه الثاني عشر (أن يقال إن الله سبحانه وتعالى لم يذكر عن نبي من الأنبياء ذنبا إلا ذكر توبته منه ولهذا كان الناس في عصمة الأنبياء على قولين أما أن يقولوا بالعصمة من فعلها وأما أن يقولوا بالعصمة من الإقرار عليها لا سيما فيما يتعلق بتبليغ الرسالة فإن الأمة متفقة على أن ذلك معصوم أن يقر فيه على خطأ فإن ذلك يناقض مقصد الرسالة ومدلول المعجزة ... ).
¥