الأول: في ثنايا مدارستي الفائتة معك أسعدك الله تعالى جواب ما تفضلت بإشكاله، فقد فصلنا في الكفريات وبينا تبعا لقول العلماء أن منها أي تلك الكفريات ما لا يعذر فيه لعدم إشكاله، وأن العذر إنما ينعقد في المسائل الخفية التي تحتاج لنظر وفهم من مستوى دارسي الشريعة لا عوام المسلمين.
ففرضك أن من المسلمين من لا يعلم أن النذر لغير الله شرك وأن السجود لغير الله شرك وأن الطواف حول القبور شرك ... ألخ ما نص العلماء رضي الله عنهم أنه من الكفر الذي لا يعذر فيه بالجهل، هذا لا يقوم مع ما قدمناه.
الثاني: أنا لو فرضنا جدلا وتنزلا جوازه – أي أن من المسلمين من لا يعلم أن الأمثلة السابقة من الشرك الأكبر - فهو من النادر الذي لا حكم له، وقد ينزل تحت العذر الذي نص عليه العلماء وهو قولهم: أن يولد الرجل في بادية بعيدة ليس فيها علم ولا دين ولا دعوة، فقد يستوي الأمرين فإن كان كذلك فقسه على ذلك.
لكن هذا بعيد جدا في عصرنا هذا، وإلا فالدعوة الوهابية كما يسمونها ملأ السمع والبصر من يوم قيام الشيخ رحمه الله تعالى وحتى الآن، والتيارات الإسلامية منذ عقود في الساحة وتنشر قضايا التوحيد بالذات وتحذر من نواقضه وتحذر من الوقوع فيه وقد قدر الله تعالى نشر أفكارهم بيد كل عدو لهم فلا يتصور في هذا العصر بما فيه من تقنيات حديثة وهذه الشبكة التي نتحدث من خلالها أكبر مثال على ذلك لا يتصور أن يخفى على أحد شيئا في تلك المسائل.
الثالث: هذا المثال الذي ضربته بالذات فيه إشكالية ضخمة جدا، وهو قضية تدليس العلماء على العوام فإنك لو أجريته هنا واعتبرته لألزمك هذا إلزاما قبيحا غاية في القبح، أتدري ما هو أخي الحبيب المبجل؟
أن تُلزم بعذر اليهود والنصاري الجهلة الذين قال لهم علماؤهم ورهبانهم أنهم على الحق وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي ... كذا – أستغفر الله ربي – وأن دين الإسلام ... كذا – أستغفر الله ربي، وهكذا.
فإنا نسألك سؤالا:
لو قال رجل من النصارى أن أعلم أن محمدا رسول من عند الله تعالى، وأعلم أني ينبغي أن أتبعه ولكن لا أرى ذلك واجبا علي وعيسى رسول كما أن محمد صلى الله عليهما وسلم رسول ماذا تقول فيه؟
إن قلت: أنه مسلم معذور حيث أنه يرى أنه لابد من اتباع النبي صلى الله عليه وسلم بل وقد أقر بصدقه، لكنه لا يعلم أن ترك اتباع النبي صلى الله عليه وسلم مع شهادته له بالنبوة والرسالة، فقد خالف صريح القرآن والسنة وإجماع الأمة في أن الرجل كافرا.
وإن قلت: بل هو كافر لإعراضه عن اتباع الدين الحق وسواء أكان لا يرى جواز اتباعه أو يرى ذلك لكنه لن يفعل لشبهة عرضت له وهي أن محمدا رسول كعيسى عليهما السلام فأنت على المنهاج القويم، ويلزمك هذا فيما أشكلته علينا من في أن الرجل يرتكب الكفر الأكبر وهو يظن أنه معصية أو أنه قد لبس عليه علماء السوء فجعلوا الحق باطل والباطل حق.
ولا تظن هذا المثال فرض مني، فقد ناظرت نصرانيا متدينا بدينه وقال لي ذلك بالحرف قال: عيسى نبي ومحمد نبي ولكني تبع عيسى وأنت تبع محمد وكلنا نعبد إلها واحدا وكلنا إلى الجنة إن شاء الله تعالى، فقلت له: عيسى نبي؟! قال:نعم نبي ومن قال إنه إله أو ابن إله فهو كافر.
وهذا الإلزام ينسحب أيضا على أهل الفترة فقول أهل السنة أنهم كفار لكن الكلام في شأنهم إنما هو في قضية التعذيب في الآخرة، والخلاف فيها معروف كما في طريق الهجرتين لابن القيم.
فلو اعتبرت هنا قضية تدليس الكبراء والعلماء للزم إيمانهم، وهذا من أقبح ما يكون من الإلزام فإن من شرط الأصل الصحيح أن يطرد وينعكس.
ألم تسمع إلى قول الرب تقدس وتعالى: إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيرا خالدين فيها أبدا لا يجدون وليا ولا نصيرا يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا.
ولم يعذرهم الله تعالى بإضلال الكبراء والسادات لهم بل أوجب لهم النار بقوله: يوم تقلب وجوههم في النار.
ألم يقولوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون، أي أنهم أطاعوا آباءهم واقتدوا بهم وظنوا بذلك أنهم من أهل الهداية إذ كانوا على آثارهم، ولم يعذرهم الله تعالى بل أوعدهم نار الجحيم ووصفهم بالكفر المستبين.
¥