وعلى وجه الاختصار المغيرة نقول: إن الهدف من الرسالة المحمدية هو ما حدده الله تعالى لها بقوله:
{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً} (الفتح:28) ومعنى هذا أن تكون الحياة الإنسانية كلها محكومة بإرادة الله المتمثلة فى النظام الإسلامى وحده، دون أى نظام أرضى آخر وبمعنى آخر: أن تعلو شريعة الله وكلمته على كل الشرائع الأرضية، بحيث تكون شريعة الله هى الخلاص للعالم كله من جميع الفتن والآلام.
وليس معنى قوله تعالى للمؤمنين:
{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} (الأنفال: من الآية39) أن يقاتل المسلمون الناس حتى يعتنقوا جميعا دين الإسلام، فهذا بما يستحيل فى العقل، وما لم يحدث فى عهد الرسول r ولا عهد الراشيدان، ومالا يتفق مع أمر الله تعالى لجنده بقوله:
{لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (البقرة: من الآية256)
وإنما معناه: أن يتوافق الأمر بالقتال لقهر الإلحاد، وإعلاء اسم الله، مع الأمر بعدم الإكراه فى الدين. ولا يكون ذلك إلا فى جبهتين لانفصل إحداهما عن الأخرى:
الأولى: تطهير أرض الدعوة من العوائق، حتى تصل كلمة الله إلى الأسماع والعقول، دون عائق يعوقها، من أفاعيل المفسدين الذين يقفون فى طريق الكلمة بالقوة، أو الذين يحالفون أهل الكفر على إثارة الجدل حول الولاء لله أو على حرب الدعاة، يقصدون بذلك بقاء الولاء للطاغوت من دون الله.
والثانية: ان تكون جميع النشاطات الإنسانية فى أرض الدعوة محكومة بشريعة الله الثابتة والمنضبطة، من دون شرائع البشر التى ليست بثابتة ولا جامعة ولا مانعة.
ومتى خضع الناس لحكم الله، فلا إكراه على أحد فى دين، لأن الولاء كله أصبح لله، ولأن دين الله أصبح ظاهرا وسائدا على الدين كله، ولآن الفتنة قد انحسرت عن أرض الدعوة، وصمت لسانها، وهذا هو مقصود الكتاب والسنة، وليس المراد أن يكون الناس فردا فردا مؤمنين بشريعة الإسلام.
ألا ترى أن الرسول r يقول فيما اتفق عليه الشيخان: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله)). وأن الذين قالوها كان منهم المنافقون، وكان منهم المؤمنون، وما النفاق إلا خضوع ظاهرى لحكم الإسلام، وإقامة بالقلب على الولاء للطاغوت؟
ورغم أن المنافقين كانوا معروفين بأسمائهم وأشخاصهم، فلم يتعرض المسلمون لهم بقتال.
* * *
وليس لأى إنسان أن يسلب الناس حريتهم فى أن يختاروا بين الإيمان بالله أو البقاء على حكم التقليد والطاغوت، ولا حريتهم فى أن يجاهدوا الإخضاع المجتمع لقانون الإيمان.
ليس للمؤمنين أن يكرهوا الناس على الإيمان، وليس للكافرين أن يكرهوا المؤمنين على العقود عن الدعوة والحركة لنشر دين الله.
وحينما يهمل المؤمنون دعوة الناس بالحسنى إلى الخضوع لكلمة الله، أو يهملون التضحية بالمال والنفس للقضاء على الفتنة التى تفوق عمل الدعاة، فإن هناك قانونا آخر سوف يحكم المجتمع كله بيد الله وحده، وهو قانون الدمار، وخلاصته كما سجله القرآن الكريم:
{وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} (القصص:58).
وتفاصيل هذا القانون تعطينا بعدا عميقا غاية العمق، يربط الظواهر الطبيعية بسلوك الناس على وجه الأرض.
لقد قضى الله سبحانه: أن تكون عوامل النماء والعمران والازدهار هى بعينها عوامل الخراب والدمار .. فالماء الذى هو حيتة كل شىء، كان هلاكا لكل شىء فى طوفان نوح ... والرياح اللواقح التى تحمل الخير والبركة، هى بعينها الريح الصرصر العائقة التى حملت العذاب الأليم إلى قوم هود، فما أتت على شىء إلا جعلته كالرميم .. والصواعق هى بعينها الإشعاعات التى تسرى فى الكون مسرى الهواء لتعديل المزاج الكونى.
¥