التقاة والتقية مصدران لفعل واحد ’ وقد قرئت الآية بالوجهين، فقرأها الجمهور ((إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً))، وقرأها ابن عباس، والحسن، وحميد بن قيس، ويعقوب الحضرمي، ومجاهد، والضحاك، وأبو رجاء، والجحدري، وأبو حيوة: تقية بفتح التاء، وتشديد الياء على وزن فعيلة، وكذلك روى المفضل، عن عاصم.وقد اشتهر لدى أهل السنة استعمال التقاة بضم التاء، وفتح القاف، والألف الممدوة، كما هي قراءة الجمهور، مع استعمالهم للفظ الآخر. واشتهر لدى الرافضة استعمال التَّقِيَّة بفتح التاء، وكسر القاف، والياء المشددة المفتوحة – كما هي القراءة الأخرى – هذا من حيث اللفظ.
أما من حيث حكم التّقية، والتطبيق العملي لها، فإن ثمت فروقاً عظيمة بينها يمكن إجمال أهمها فيما يلي:
الفرق الأول:
أن التّقية عند أهل السنة استثناء مؤقت من أصل كلي عام، لظرف خاص يمر به الفرد المسلم، أو الفئة المسلمة، وهي مع ذلك رخصة جائزة (*).
أما الرافضة فالتّقية عندهم واجب مفروض حتى يخرج قائمهم، وهي بمنزلة الصلاة، حتى نقلوا عن الصادق قوله: ((لو قلت إن تارك التّقية كتارك الصلاة لكنت صادقاًً)) (1).
بل إن التقية عندهم – تسعة أعشار الدين (2)، بل هي الدين كله، ولذلك قالوا: ((لا دين لمن لا تقية له)) (3).فالتّقية في المذهب الشيعي أصل ثابت مطرد، وليست حالة عارضة مؤقتة. بل بلغ من غلوهم في التّقية أن اعتبروا تركها ذنباً لا يغفر، فهي على حد الشرك بالله، ولذلك جاء في أحاديثهم: ((يغفر الله للمؤمنين كل ذنب، ويطهر منه في الدنيا والآخرة، ما خلا ذنبين: ترك التّقية، وتضييع حقوق الإخوان)) (4). وبهذا يتبين الفرق في الحكم بين نظرة أهل السنة، ونظرة الرافضة، فهي عند أهل السنة استثناء مباح للضرورة، وعند الرافضة أصل من أصول المذهب.
الفرق الثاني:
إن التقية عند أهل السنة ينتهي العمل بها بمجرد زوال السبب الداعي لها من الإكراه ونحوه، ويصبح الاستمرار عليها – حينئذ – دليلاً على أنها لم تكن تقية ولا خوفاً بل كانت ردَّة ونفاقاً.وفي الأزمنة التي تعلو فيها كلمة الإسلام، وتقوم دولته، ينتهي العمل بالتّقية – غالباً – وتصبح حالة فردية نادرة.أما عند الرافضة، فهي واجب جماعي مستمر، لا ينتهي العمل به، حتى يخرج مهديهم المنتظر الذي لن يخرج أبداً.ولذلك ينسبون إلى بعض أئمتهم قوله: ((من ترك التّقية قبل خروج قائمنا فليس منَّا)) (5).
الفرق الثالث:
أن تقاة أهل السنة تكون مع الكفار – غالباً – كما هو نص قوله تعالى: ((لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً)).وقد تكون مع الفساق والظلمة الذين يخشى الإنسان شرهم، ويحاذر بأسهم وسطوتهم.
أما تقية الرافضة فهي أصلاً مع المسلمين.
وهم يسمون الدولة المسلمة ((دولة الباطل)) (6)، ويسمون دار الإسلام: ((دار التّقية)) (7) ويرون أن من ترك التّقية في دولة الظالمين فقد خالف دين الإمامية وفارقه (8).
بل تعدى الأمر عندهم إلى حد العمل بالتّقية فيما بينهم حتى يعتادوها ويحسنوا العمل بها أمام أهل السنة.وفي هذا يقول بعض أئمتهم – فيما زعموا -: ((عليكم بالتّقية، فإنه ليس منا من لم يجعلها شعاره ودثاره مع من يأمنه، لتكون سجية مع من يحذره)) (9).
الفرق الرابع:
أن التقاة عند أهل السنة حاله مكروهة ممقوته، يكره عليها المسلم إكراهاً، ويلجأ إليها إلجاء، ولا يداخل قلبه – خلال عمله بالتقاة – أدنى شيء من الرضى، أو الاطمئنان، وكيف يهدأ باله، ويرتاح ضميره، وهو يظهر أمراً يناقض عَقْدَ قلبه؟
أما الرافضة، فلما للتّقية عندهم من المكانة، ولما لها في دينهم من المنزلة، ولما لها في حياتهم العملية الواقعية من التأثير فقد عملوا على ((تطبيعها))، وتعويد أتباعهم عليها، وأصبحوا يتوارثون التمدح بها كابراً عن كابر.ومن نصوصهم في ذلك ما نسبوه لبعض أئمتهم من قوله لابنه: ((يا بني ما خلق الله شيئاً أقر لعين أبيك من التّقية)) (10).
ونسبوا لجعفر الصادق قوله: ((لا والله ما على الأرض أحب إليَّ من التّقية)) (11).
¥