رابعاً: أما جمع المصحف ونحوه فهي من باب المصالح المرسلة، لا من قبيل البدعة المحدثة، والمصالح المرسلة قد عمل بمقتضاها السلف الصالح من الصحابة ومن بعدهم، فهي من الأصول الفقهية الثابتة عند أهل الأصول. " فحق ما فعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن له أصلا يشهد له في الجملة، وهو الأمر بتبليغ الشريعة، وذلك لا خلاف فيه لقوله تعالى (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك)، وأمته مثله، وفي الحديث:" ليبلغ الشاهد منكم الغائب" وأشباهه.
والتبليغ كما لا يتقيد بكيفية معلومة؛ لأنه من قبيل المعقول المعنى، فيصح بأي شيء أمكن من الحفظ والتلقين والكتابة وغيرها، كذلك لا يتقيد حفظه عن التحريف والزيغ بكيفية دون أخرى، إذا لم يعد على الأصل بالإبطال؛ كمسألة المصحف، ولذلك أجمع عليه السلف الصالح.
وأما ما سوى المصحف؛ فالأمر فيه أسهل، فقد ثبت في السنة كتابة العلم:
ففي الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم:"اكتبوا لأبي شاه" وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال:" ليس احد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر حديثا مني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عبد الله بن عمرو؛ فإنه كان يكتب وكنت لا أكتب"
وذكر آهل السير انه كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم كتاب يكتبون له الوحي وغيره؛ منهم: عثمان، وعلي، ومعاوية، والمغيرة بن شعبة وأبي بن كعب، وزيد ابن ثابت، وغيرهم.
وأيضا؛ فإن الكتابة من قبيل ما لا يتم الواجب إلا به إذا تعين لضعف الحفظ وخوف اندراس العلم كما خيف دروسه حينئذ، وهو الذي نبه عليه اللخمي فيما تقدم.
وإنما كره المتقدمون كتب العلم لأمر آخر لا لكونه بدعة، فكل من سمى كتب العلم بدعة؛ فإما متجوز، وإما غير عارف بوضع لفظ البدعة، فلا يصح الاستدلال بهذه الأشياء على صحة العمل بالبدع.
وإن تعلق بما ورد من الخلاف في المصالح المرسلة، وأن البناء عليها غير صحيح عند جماعة من الأصوليين؛ فالحجة عليهم إجماع الصحابة على المصحف والرجوع إليه، وإذا ثبت اعتبارها في صورة؛ ثبت اعتبارها مطلقا، ولا يبقى بين المختلفين نزاع إلا في الفروع. [18] "
قال شيخ الإسلام ابن تيمية عن جمع القرآن:" إن المانع من جمعه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أن الوحي كان لا يزال ينزل فيغير الله ما يشاء، ويحكم ما يريد، فلو جمع في مصحف واحد لتعسر أو تعذر تغييره كل وقت، فلما استقر القرآن بموته صلى الله عليه وسلم، واستقرت الشريعة بموته صلى الله عليه وسلم، أمن الناس من زيادة القرآن، ونقصه، وأمنوا من زيادة الإيجاب، والتحريم، والمقتضي للعمل قائم بسنته صلى الله عليه وسلم، فعمل المسلمون بمقتضى سنته، وذلك العمل من سنته، وإن كان يسمى هذا في اللغة بدعة، وصار هذا كنفي عمر رضي الله عنه ليهود خيبر، ونصارى نجران، ونحوهم من أرض العرب. فإن النبي صلى الله عليه وسلم عهد بذلك في مرضه فقال:" أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب" وإنما لم ينفذه أبو بكر رضي الله عنه لاشتغاله عنه بقتال أهل الردة، وبشروعه في قتال فارس والروم، وكذلك عمر لم يمكنه فعله في أول الأمر لاشتغاله بقتال فارس والروم، فلما تمكن من ذلك فعل ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان هذا الفعل قد يسمى بدعة في اللغة. كما قال له اليهود: كيف تخرجنا وقد أقرنا أبو القاسم. وكما جاءوا إلى علي رضي الله عنه في خلافته فأرادوا منه إعادتهم وقالوا كتابك بخطك فامتنع من ذلك لأن ذلك الفعل من عمر كان بعهد رسول الله صلى الله.
والضابط في هذا والله أعلم أن يقال إن الناس لا يحدثون شيئا إلا لأنهم يرونه مصلحة إذ لو اعتقدوه مفسدة لم يحدثوه فإنه لا يدعو إليه عقل ولا دين فما رآه المسلمون مصلحة نظر في السبب المحوج إليه فإن كان السبب المحجوج إليه أمرا حدث بعد النبي صلى الله عليه وسلم لكن تركه النبي صلى الله عليه وسلم من غير تفريط منا فهنا قد يجوز إحداث ما تدعو الحاجة إليه وكذلك إن كان المقتضي لفعله قائما على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لكن تركه النبي صلى الله عليه وسلم لمعارض قد زال بموته
وإما مالم يحدث سبب يحوج إليه أو كان السبب المحوج إليه بعض ذنوب العباد فهنا لا يجوز الإحداث فكل أمر يكون المقتضي لفعله على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم موجودا لو كان مصلحة ولم يفعل يعلم أنه لبس بمصلحة
¥