تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

الحمد لله، ليس هذا هو الرزق الذي أباحه الله له. ولا يحب ذلك ولا يرضاه. ولا أمره أن ينفق منه. كقوله تعالى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [البقرة: 3]، وكقوله تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [المنافقون: 10]، ونحو ذلك لم يدخل فيه الحرام، بل من أنفق من الحرام، فإن الله تعالى يذمه، ويستحق بذلك العقاب في الدنيا والآخرة، بحسب دينه، وقد قال الله: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188]، وهذا أكل المال بالباطل.

ولكن هذا الرزق الذي سبق به علم الله وقدره، كما في الحديث الصحيح عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يجمع خلق أحدكم في بطن أمه أربعين يومًا نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل / ذلك، ثم يبعث الله إليه الملك، فيؤمر بأربع كلمات، فيكتب رزقه، وعمله، وأجله، وشقي أو سعيد)، فكما أن الله كتب ما يعمله من خير وشر، وهو يثيبه على الخير، ويعاقبه على الشر. فكذلك كتب ما يرزقه من حلال وحرام، مع أنه يعاقبه على الرزق الحرام.

ولهذا كل مافي الوجود واقع بمشيئة الله وقدره، كما تقع سائر الأعمال، لكن لا عذر لأحد بالقدر، بل القدر يؤمن به، وليس لأحد أن يحتج على الله بالقدر، بل لله الحجة البالغة، ومن احتج بالقدر على ركوب المعاصي، فحجته داحضة، ومن اعتذر به فعذره غير مقبول، كالذين قالوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا} [الأنعام: 148]، والذين قالوا: {لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف: 20]، كما قال تعالى: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنْ السَّاخِرِينَ. أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنْ الْمُتَّقِينَ} [الزمر: 56، 57]

وأما الرزق الذي ضمنه الله لعباده، فهو قد ضمن لمن يتقيه أن يجعل له مخرجًا، ويرزقه من حيث لا يحتسب، وأما من ليس من المتقين، فضمن له ما يناسبه، بأن يمنحه ما يعيش به في الدنيا، ثم يعاقبه في الأخرة، كما قال عن الخليل: {وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} قال الله: {وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 126].

/والله إنما أباح الرزق لمن يستعين به على طاعته، لم يبحه لمن يستعين به على معصيته، بل هؤلاء وإن أكلوا ما ضمنه لهم من الرزق فإنه يعاقبهم، كما قال: {وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 126]، وقال تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 1]، فإنما أباح الأنعام لمن يحرم عليه الصيد في الإحرام.

وقال تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة: 93]، فكما أن كل حيوان يأكل ما قدر له من الرزق، فإنه يعاقب على أخذ مالم يبح له، سواء كان محرم الجنس، أو كان مستعينا به على معصية الله، ولهذا كانت أموال الكفار غير مغصوبة، بل مباحة للمؤمنين، وتسمى فيئًا إذا عادت إلى المؤمنين؛ لأن الأموال إنما يستحقها من يطيع الله لا من يعصيه بها، فالمؤمنون يأخذونها بحكم الاستحقاق، والكفار يعتدون في إنفاقها، كما أنهم يعتدون في أعمالهم، فإذا عادت إلى المؤمنين فقد فاءت إليهم كما يفىء المال إلى مستحقه.

/ وسئل عن الخمر، والحرام: هل هو رزق الله للجهال؟ أم يأكلون ما قدر لهم؟ فأجاب:

إن لفظ الرزق يراد به ما أباحه الله تعالى للعبد، وملكه إياه، ويراد به ما يتغذى به العبد.

فالأول كقوله: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [المنافقون: 10]، {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [البقرة: 3]، فهذا الرزق هو الحلال، والمملوك لا يدخل فيه الخمر والحرام.

والثاني كقوله: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6]، والله تعالى يرزق البهائم، ولا توصف بأنها تملك، ولا بأنه أباح الله ذلك لها إباحة شرعية، فإنه لا تكليف على البهائم ـ وكذلك الأطفال والمجانين ـ لكن ليس بمملوك لها وليس بمحرم عليها، وإنما المحرم بعض الذي يتغذى به العبد، وهو من الرزق الذي علم الله أنه يغتذى به. وقدر ذلك بخلاف ما أباحه وملكه، كما في الصحيحين عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يجمع خلق أحدكم في بطن أمه / أربعين يومًا نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الملك، فيؤمر بأربع كلمات، فيقال: اكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد ثم ينفخ فيه الروح. قال: فوالذي نفسي بيده إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتي ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها).

والرزق الحرام، مما قدره الله، وكتبته الملائكة، وهو مما دخل تحت مشيئة الله، وخلقه، وهو مع ذلك قد حرمه، ونهى عنه، فلفاعله من غضبه وذمه وعقوبته ما هو أهله، والله أعلم.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير