فإن قيل: إنَّ ألسنة الناس قد فسدت منذ جيل التابعين ومن بعدهم، وصار تعلم النحو لازمًا لمن أراد أن يعرف العربية، وأن من يزعم اليوم أنه عربي، ولا يلزمه تعلم النحو إنما هو ذو رأي فائل، وقول باطل. فيقال: إن فساد ألسنة الناس بالعربية قد جرَّ إلى فساد ألسنتهم في أداء القرآن، ولئن كان الإنكار على من لا يرى دراسة النحو اكتفاءً بعربيته المعاصرة فإن الإنكار على من يزعم أنه يكفي في قراءته عربيته المعاصرة كذلك.
ثمَّ يقال له: من أين لك في عربيتك أن تقرأ برواية حفص عن عاصم مجراها بالإمالة؟
فإن قال: لأنها هكذا رويت عنه، وأن أقرأ بقراءته؟ قيل له فقد روي عنه الأداء بالتجويد الذي تخالف فيه ولا تراه علمًا، فَلِمَ قبلت روايته في هذا وتركتها في ذا؟ أليس هذا من قبيل التَّحكُّم، والتَّحكُّم كما قال الطبري ـ: لا يعجز عنه أحد.
ثالثًا: إنَّ بعض علم التجويد (الأداء) لا يمكن أخذه من طريق الصُّحِفِ البتة؛ لأنه علم مشافهة، وما كان من طريق المشافهة فإنه مما ينقله الآخر عن الأول، ولا مجال للرأي في المشافهة، واعلم أن مما يميِّز بحث القراء المجودين في هذا المجال عما تجده في كتب النحويين واللغويين أن ما عند المجودين منقول بالمشافهة إلى يومنا الحاضر، أما ما يذكره النحويون واللغويون من المباحث اللفظية التي يذكرونها مما يتعلق بكيفية النطق فإنه لا يمكن معرفة كيفية النطق بها؛ لأنه مما لا يُعرف بالقياس ولا يُدرك بغير المشافهة، وليس لك فيها إلا نقل الكلام المدون دون كيفية نُطقِه.
رابعًا: إن علم التجويد كغيره من العلوم الإسلامية التي دوَّنَها علماء الإسلام وضبطوا أصولها، فتجد أن تقسيم العلم ومصطلحاته الفنية مما يدخلها الاجتهاد. ثمَّ إن هذا العلم قد دخله الاجتهاد في بعض مسائله، وذلك من دقائق ما يتعلق بهذا العلم، ومما يحتاج إلى بحث ومناقشة وتحرير من المتخصصين في هذا العلم، وذلك في أمرين:
الأول: المقادير، والمقصود بذلك مقدار الغنة والمدود والسكت وغيرها، مما يُقدَّر له زمن بالحركات أو بقبض الأصبع أو بغيرها من موازين المجودين للزمن المقدَّر، وليس القول بدخول الاجتهاد في المقادير يعني أنه لا أصل لها،بل لها أصل، لكن تقدير الزمن بهذا الحد بالذات مما تختلف فيه الطبائع، ويصعب ضبطه، فيقدره هذا بذاك العدد، ويقدره آخر بغيره من العدد، لكنهم كلهم متفقون على وجود مقدار زائدٍ عن الحدِّ الطبيعي لنطق الحرف المفرد. فاتفاقهم على وجود هذا القدر الزائد مسألة، واختلافهم في مقداره مسألة أخرى، لذا لا يُجعَل اختلافهم في المقدار سبيلاً إلى الإنكار، كما لا يُجعَلُ مقدارٌ من هذه المقادير المختلف فيها ملزمًا لعامة الناس ما داموا يأتون بشيءٍ منه، إذ ليس كل امرئ مسلم يستطيع بلوغ الإتقان في القراءة.
الثاني: التحريرات، والمراد بها الوجوه القرائية الجائزة عند القراءِ عند جمع القراءات، أو عند قراءة سورة ووصلها بما بعدها، فإن ما يُذكر من الأوجه القرائية إنما هو على سبيل القياس للأوجه الجائزة، ولا يلزم أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قرأ بكل هذه الأوجه المذكورة، كما يقال: لك في وصل الفاتحة بالبقرة ثلاثة أوجه: قطع الجميع، ووصل الجميع، وقطع الأول ووصل الثاني بالثالث، فهذا من التحرير للأوجه الجائزة، وليس من بيان الأوجه الواردة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقد أشار إلى هذين النوعين (التقديرات والتحريرات) الشيخ المحقق الدكتور عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري في كتابه العظيم (حديث الأحرف السبعة، ط: مؤسسة الرسالة: (129 ـ 130).
خامسًا: إن مما يدعو إلى التأمل والنظر في صحة ما تُلُقِّي من هذا العلم عبر القرون اتفاق المجودين شرقًا وغربًا بلا اختلاف بينهم، سوى في كيفيات أداء معدودة، وهي في غالبها مما يدخل في محيط الاجتهاد. وهذا الاتفاق يشير بقوة إلى أن لهذا العلم أصلاً ثابتًا مُتلقًا جيلاً عن جيل من لدن الرسول –صلى الله عليه وسلم- حتى عصرنا هذا، ولو كان علم التجويد من المحدثات لوقع فيه مثل ما وقع في محدثات الصوفية من كثرة الطرق المتباينة، وكثرة الأوراد المتغايرة، ولما لم يقع مثل هذا الاختلاف عُلِم أنَّ المشكاة التي صدر عنها واحدة، وهي التي صدر عنها نقل حروف القرآن جيلاً عن جيل.
سادسًا: إن ما يُعاب به التجويد من وجود بعض المتنطعين في القراءة أو المتشددين في التلقين، أو المغالين في تأثيم الناس بعدم قراءتهم بالتجويد، فإنه لا ينجرُّ على أصل العلم، ولا يجعله علمًا حادثًا لا أصل له، وهؤلاء الأصناف موجودون في كل عصر ومِصر، وقد أشار إليهم المحققون من أعلام القراءة؛ كالداني (ت: 444)، وأبو العلاء الهمذاني (ت: 569) وغيرهم، وهؤلاء المتنطعون لا يقاس عليهم، ولا يحكم على العلم بهم، ولو سار سائر على بعض العلوم كعلم النحو والبلاغة والأصول، وبعض مسائل الفقه، وبعض تعصبات الفقهاء لمذاهبهم وأخذ ينقدها بقول المتنطعين فيها لما سَلِم من العلوم إلا القليل، ولخرج بعض العلوم من أن تكون علومًا معتبرةً، وذلك ما لا يقول به طالب علم، ولا عالم قد مارس العلوم وتلقاها.
سابعًا: إذا تبين ما تقدَّم فإنه يقال: إن تعلم التجويد من السنن التي دأب عليها المسلمون جيلاً بعد جيلٍ، ومن ترك تعلمه مع القدرة عليه، فقد أخلَّ بشيء من سنن القراءة، وكفى بذلك عيبًا.
والله اعلم
http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_*******.cfm?id=71&catid=73&artid=2791