• فهو في الشهوات منغمس، وفي الشبهات منتكس، وعن الناصح معرض، وعلى المرشد معترض، وعن السراء نائم، وقلبه في كل واد هائم.
• فلو أنه تجرَّد من نفسه، ورغب عن مشاركة أبناء جنسه، وخرج من ضيق الجهل إلى فضاء العلم، ومن سجن الهوى إلى ساحة الهدى، ومن نجاسة النفس إلى طهارة القدس = لرأى الإِلف الذي نشأ بنشأته، وزاد بزيادته، وقويَ بقوَّته، وشرف عند نفسه، وأبناء جنسه بحصوله، وسد قذىً في عين بصيرته، وشجاً في حلق إيمانه، ومرضاً مترامياً إلى هلاكه.
• فإن قلتَ: قد أشرت إلى حياة غير معهودة بين أموات الأحياء، فهل يمكنك وصف طريقها؛ لأصل إلى شيء من أذواقها، فقد بان لي أن ما نحن فيه من الحياة حياة بهيمية، ربما زادت علينا فيها البهائم بخلوِّهَا عن المنكرات والمنغِّصات، وسلامة العاقبة.
• قلتُ: لعمر الله إن اشتياقك إلى هذه الحياة، وطلب علمها، ومعرفتها = لدليلٌ على حياتك، وأنك لست من جملة الأموات!
•• فأول طريقها: أن تعرف الله، وتهتدي إليه = طريقا يوصلك إليه، ويحرق ظلمات الطبع بأشعة البصيرة؛ فيقوم بقلبه شاهد من شواهد الآخرة، فينجذب إليها بكلِّيَتِه، ويزهد في التعلُّقات الفانية، ويدأب في تصحيح التوبة، والقيام بالمأمورات الظاهرة والباطنة، وترك المنهيات الظاهرة والباطنة، ثم يقوم حارساً على قلبه؛ فلا يسامحه بخطرة يكرهها الله، ولا بخطرة فضولٍ لا تنفعه؛ فيصفو بذلك قلبه عن حديث النفس ووسواسها؛ فيُفْدَى من أسرها، ويصير طليقاً.
• فحينئذ يخلو قلبه بذكر ربه ومحبته، والإنابة إليه، ويخرج من بين بيوت طبعه ونفسه، إلى فضاء الخلوة بربه وذكره؛ كما قيل:
(وأخرج من بين البيوت لعلَّني •••• أحدِّثُ عنك النفس بالسرِّ خاليا)
• فحينئذ يجتمع قلبه وخواطره، وحديث نفسه على إرادة ربه، وطلبه والشوق إليه.
فإذا صدق في ذلك رزق محبة الرسول صلى الله عليه وسلم، واستولت روحانيته على قلبه؛ فجعله إمامه ومعلمه، وأستاذه وشيخه وقدوته؛ كما جعله الله نبيه ورسوله، وهادياً إليه.
• فيطالع سيرته، ومبادئ أمره، وكيفية نزول الوحي عليه، ويعرف صفاته وأخلاقه وآدابه؛ في حركاته وسكونه، ويقظته ومنامه، وعبادته، ومعاشرته لأهله وأصحابه؛ حتى يصير كأنه معه، من بعض أصحابه!
• فإذا رسخ قلبه في ذلك = فتح عليه بفهم الوحي المنزَّل عليه من ربه؛ بحيث لو قرأ السورة شاهد قلبه ما أنزلت فيه، وما أريد بها، وحظّه المختص به منها؛ من الصفات والأخلاق، والأفعال المذمومة؛ فيجتهد في التخلص منها كما يجتهد في الشفاء من المرض المخوف.
• وشاهد حظَّه من الصفات والأفعال الممدوحة؛ فيجتهد في تكميلها وإتمامها، فإذا تمَّكن من ذلك انفتح في قلبه عين أخرى؛ يشاهد بها صفات الرب جل جلاله؛ حتى تصير لقلبه بمنزلة المرئي لعينه؛ فيشهد علوَّ الربِّ سبحانه فوق خلقه، واستواءه على عرشه، ونزول الأمر من عنده؛ بتدبير مملكته، وتكليمه بالوحي ... ؛ فيشهد ربه سبحانه قائماً بالملك والتدبير؛ فلا حركة ولا سكون، ولا نفع ولا ضرَّ، ولا عطاء ولا منع، ولا قبض ولا بسط = إلا بقدرته وتدبيره.
• فيشهد قيام الكون كله به، وقيامه سبحانه بنفسه؛ فهو القائم بنفسه المقيم لكل ما سواه.
• فإذا رسخ قلبه في ذلك شهد الصفة المصحِّحة لجميع صفات الكمال، وهي الحياة؛ التي كمالها يستلزم كمال السمع والبصر والقدرة والإرادة والكلام .. وسائر صفات الكمال.
• وصفة القيومية الصحيحة المصحّحة لجميع الأفعال.
• فالحي القيوم: من له كل صفة كمال، وهو الفعَّال لما يريد.
• فإذا رسخ قلبه في ذلك فتح له مشهد القرب والمعية؛ فيشهده سبحانه معه غير غائب عنه، قريباً غير بعيد، مع كونه فوق سماواته، على عرشه، بائناً من خلقه، قائماً بالصنع والتدبير والخلق والأمر.
• فيحصل له مع التعظيم والإجلال = الأنس بهذه الصفة؛ فيأنس به بعد أن كان مستوحشاً، ويقوى به بعد أن كان ضعيفاً، ويفرح به بعد أن كان حزيناً، ويَجِدُ بعد أن كان فاقداً.
• فحينئذ يجد طعم قوله: (ولا يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتى أحبَّه؛ فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه))!
• فأطيب الحياة على الإطلاق حياة هذا العبد؛ فإنه محب محبوب متقرِّبٌ إلى ربِّه، وربُّه قريبٌ منه؛ قد صار له حبيبه؛ لفرط استيلائه على قلبه، ولهجه بذكره، وعكوف همته على مرضاته؛ بمنزلة سمعه وبصره ويده ورجله؛ وهذه آلات إدراكه وعمله وسعيه.
• فإن سمع سمع بحبيبه، وإن أبصر أبصر به، وإن بطش بطش به، وإن مشى مشى به.
• فإن صعب عليك فهم هذا المعنى، وكون المحب الكامل المحبة: يسمع ويبصر ويبطش ويمشي بمحبوبه وذاته غائبةٌ عنه = فأضرب عنه صفحاً؟!!، وخلِّ هذا الشأن لأهله:
(خل الهوى لأناس يعرفون به •••• قد كابدوا الحب حتى لان أصبعه)
• فإن السالك إلى ربِّه لا تزال همته عاكفةً على أمرين:
1 - استفراغ القلب في صدق الحب.
2 - وبذل الجهد في امتثال الأمر.
فلا يزال كذلك حتى يبدو على سرِّه شواهد معرفته، وآثار صفاته وأسمائه؛ ولكن يتوارى عنه ذلك أحياناً، ويبدو أحياناً؛ يبدو من عين الجود، ويتوارى بحكم الفترة.
• والفترات أمر لازم للعبد؛ فكل عامل له شرَّةٌ، ولكل شرَّةٍ فترةٌ ... )).
¥