فإن قيل: فقد اختلف عمر وعلى هل تباح للثاني؟ فقال عمر: لا ينكحها أبدًا. وقال علي: إذا انقضت عدتها ـ يعني من الثاني ـ فإن شاءت نكحت، وإن شاءت لم تنكح. ولو كان وطء الثاني كوطء الشبهة لم يمنع الأول أن يتزوجها؛ فإن الرجل لو وطئت امرأته بشبهة لم يزل نكاحه بالإجماع، بل يعتزلها حتى تعتد، ولو وطئت الرجعية بشبهة لم يسقط حق الزوج شيء؟.
قيل: أولاً هذا السؤال لا تعلق له بقدر العدة، فسواء كانت العدة استبراء بحيضة، أو كانت بتربص ثلاثة قروء، هذا وارد في الصورتين. ولا ريب أن الزوج المطلق الذي اعتدت من وطئه إن كان طلقها الطلقة الثالثة فقد حرمت عليه حتى تنكح زوجا غيره، فلا يمكنه أن يراجعها في عدتها منه، وأما إن فارقها فرقة بائنة ـ كالخلع ـ ونكحت في مدة اعتدادها منه، مثل أن تنكح قبل أن تستبرأ بحيضة، فهنا إذا أراد أن يتزوجها في عدتها فإنما يتزوجها بعقد /جديد، وليس له أن يتزوج بعدة من غيره بعقد جديد؛ فإن العدة من الغير تمنع ابتداء النكاح، ولا تمنع دوامه فليس لأحد أن يتزوج بعدة، لا من وطء شبهة، ولا نكاح فاسد، بل ولا زني؛ وإن كانت امرأته إذا وطئت بشبهة أو زني لم يبطل نكاحه، بل يجتنبها حتى يستبرأها، ثم يطأها.
وإذا قيل: فهذه معتدة من الوطء، فكيف يمنع من نكاحها في العدة؟
قيل أولاً: هذا لا يتعلق بقدر العدة.
وقيل ثانيا: لا نص ولا إجماع يبيح لكل معتدة أن تنكح في عدتها، لكن الإجماع انعقد على ذلك في مثل المختلعة؛ إذ لا عدة عليها لغير الناكح. فأما إذا وجبت عليها عدة من غيره، فهنا المانع كونها معتدة من غيره، كما يمنع بعد انقضاء عدتها منه؛ فإن الخلية من عدتها له أن ينكحها، وإذا كان بعدة من الغير لم يكن له ذلك. فالعدة ليست مانعة من النكاح ولا موجبة لحله، وانتفاء مانع واحد لا يبيح الغير إذا وجد مانع آخر، ولكن يظن الظان أن العدة منه وجبت لإباحة عقده. وهذا غلط. وأما إن كان الطلاق الأول رجعية، فارتجاعه إياها في بقية عدتها منه كارتجاعه لو وطئت بشبهة في عدتها من الطلاق الرجعي، لا فرق بينهما.
/وكذلك الذي قضي به على: أن الثاني لا ينكحها حتى تنقضي عدتها منه وهو ظاهر مذهب أحمد. وأما مذهب الشافعي فيجوز عنده للثاني أن ينكحها في عدتها منه، كما يجوز للواطئ بشبهة أن يتزوج الموطوءة في عدتها منه، وكذلك كل من نكح امرأة نكاحا فاسدا له أن يتزوجها في عدتها منه.
وأحمد له في هذا الأصل روايتان:
إحداهما: لا يجوز، وهو مذهب مالك؛ ليميز بين ماء وطء الشبهة، وماء المباح المحض.
والثانية: يجوز كمذهب الشافعي؛ لأن النسب لاحق في كليهما. وعلى هذه الرواية فمن أصحاب أحمد من جوز للثاني أن ينكحها في عدتها منه، كما هو قول الشافعي، كما يجوز ذلك لكل معتدة من نكاح فاسد على هذه الرواية.
ومنهم من أنكر نصه، وقال هنا: كان يذكر فيها عدة من الواطئ الأول، وهذا الواطئ الثاني لم تعتد منه عقب مفارقته لها، بل تخلل بين مفارقته وعدته عدة الأول، وهي قد وجب عليها عدتان لهما، وتقديم عدة الأول كان لقدم حقه، وإلا فلو وضعت ولدًا ألحق بالثاني لكانت عدة الثاني متقدمة على عدة الأول، فهي في أيام عدة الأول عليها حق للثاني، وفي الاعتداد / من الثاني عليها حق الأول؛ بدليل أنها لو وضعت ولدا بعد اعتدادها من الأول وأمكن كونه من الأول والثاني عرض على القافة. فإذا كان للأول حق في مدة عدتها من الثاني لم يكن للثاني أن يتزوجها في مدة العدة.
فهذا أشهر الأقوال في هذه المسألة، وهو المأثور عن الصحابة، وهو نص أحمد، وعليه جمهور أصحابه، وقد تبعه الجد ـ رحمه الله ـ في محرره.
وأما مقدار العدة فقد ذكرنا عن أحمد روايتين في المختلعة فإن لم يكن بينها وبين المنكوحة نكاحا فاسدًا فرق شرعي، وإلا وجب أن يقال في المنكوحة نكاحا فاسدًا: إنما تعتد بحيضة، كما مضت به السنة. والله أعلم.
مجموع فتاوى ابن تيمية
المجلد الثاني والثلاثون