الْقِسْمُ الرَّابِعُ , نَذْرُ الْمَعْصِيَةِ , فَلَا يَحِلُّ الْوَفَاءُ بِهِ إجْمَاعًا ; وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: {مَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ.} وَلِأَنَّ مَعْصِيَةَ اللَّهِ تَعَالَى لَا تَحِلُّ فِي حَالٍ , وَيَجِبُ عَلَى النَّاذِرِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ. رُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ , وَابْنِ عَبَّاسٍ , وَجَابِرٍ , وَعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ , وَسَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ. وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ , وَأَبُو حَنِيفَةَ , وَأَصْحَابُهُ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ , فَإِنَّهُ قَالَ , فِيمَنْ نَذَرَ لَيَهْدِمَنَّ دَارَ غَيْرِهِ لَبِنَةً لَبِنَةً: لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ. وَهَذَا فِي مَعْنَاهُ. وَرُوِيَ هَذَا عَنْ مَسْرُوقٍ , وَالشَّعْبِيِّ. وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ , وَالشَّافِعِيِّ ; لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ: صلى الله عليه وسلم {لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ , وَلَا فِيمَا لَا يَمْلِكُ الْعَبْدُ.} رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَقَالَ {لَيْسَ عَلَى الرَّجُلِ نَذْرٌ فِيمَا لَا يَمْلِكُ.} مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَالَ: {لَا نَذْرَ إلَّا مَا اُبْتُغِيَ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ}. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَقَالَ: {مَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ}. وَلَمْ يَأْمُرْ بِكَفَّارَةٍ. {وَلَمَّا نَذَرَتْ الْمَرْأَةُ الَّتِي كَانَتْ مَعَ الْكُفَّارِ , فَنَجَتْ عَلَى نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ تَنْحَرَهَا , قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ , إنِّي نَذَرْت إنْ أَنْجَانِي اللَّهُ عَلَيْهَا أَنْ أَنْحَرَهَا؟ قَالَ: بِئْسَ مَا جَزَيْتِهَا , لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ , وَلَا فِيمَا لَا يَمْلِكُ الْعَبْدُ} رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَلَمْ يَأْمُرْهَا بِكَفَّارَةٍ {. وَقَالَ لِأَبِي إسْرَائِيلَ حِينَ نَذَرَ أَنْ يَقُومَ فِي الشَّمْسِ , وَلَا يَقْعُدَ , وَلَا يَسْتَظِلَّ , وَلَا يَتَكَلَّمَ: مُرُوهُ فَلْيَتَكَلَّمْ , وَلْيَجْلِسْ , وَلْيَسْتَظِلَّ , وَلِيُتِمَّ صَوْمَهُ.}. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِكَفَّارَةٍ. لِأَنَّ النَّذْرَ الْتِزَامُ الطَّاعَةِ , وَهَذَا الْتِزَامُ مَعْصِيَةٍ , وَلِأَنَّهُ نَذْرٌ غَيْرُ مُنْعَقِدٍ , فَلَمْ يُوجِبْ شَيْئًا , كَالْيَمِينِ غَيْرِ الْمُنْعَقِدَةِ. وَوَجْهُ الْأَوَّلِ , مَا رَوَتْ عَائِشَةُ , أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: {لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ , وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ.} رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ , فِي " مُسْنَدِهِ " , وَأَبُو دَاوُد , فِي " سُنَنِهِ ". وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هُوَ حَدِيثٌ غَرِيبٌ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ , وَعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ , عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِثْلُهُ. رَوَى الْجُوزَجَانِيُّ , بِإِسْنَادِهِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ , قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ {: النَّذْرُ نَذْرَانِ ; فَمَا كَانَ مِنْ نَذْرٍ فِي طَاعَةِ اللَّهِ , فَذَلِكَ لِلَّهِ , وَفِيهِ الْوَفَاءُ , وَمَا كَانَ مِنْ نَذْرٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ , فَلَا وَفَاءَ فِيهِ , وَيُكَفِّرُهُ مَا يُكَفِّرُ الْيَمِينَ.} وَهَذَا نَصٌّ. وَلِأَنَّ النَّذْرَ يَمِينٌ , بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {النَّذْرُ حَلْفَةٌ} {. وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِأُخْتِ عُقْبَةَ , لَمَّا نَذَرَتْ الْمَشْيَ إلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ , فَلَمْ تُطِقْهُ: تُكَفِّرُ يَمِينَهَا.} صَحِيحٌ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد. وَفِي رِوَايَةٍ: " وَلْتَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ". قَالَ أَحْمَدُ: إلَيْهِ أَذْهَبُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي الَّتِي نَذَرَتْ ذَبْحَ ابْنِهَا: كَفِّرِي يَمِينَك. وَلَوْ حَلَفَ عَلَى فِعْلِ مَعْصِيَةٍ , لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ , فَكَذَلِكَ إذَا نَذَرَهَا. فَأَمَّا أَحَادِيثُهُمْ , فَمَعْنَاهَا لَا وَفَاءَ بِالنَّذْرِ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ. وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ , وَقَدْ جَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ هَكَذَا فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ. وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا أَيْضًا أَنَّ فِي سِيَاقِ الْحَدِيثِ {: وَلَا يَمِينَ فِي قَطِيعَةِ رَحِمٍ}. يَعْنِي لَا يَبَرُّ فِيهَا. وَلَوْ لَمْ يُبَيِّنْ الْكَفَّارَةَ فِي أَحَادِيثِهِمْ , فَقَدْ بَيَّنَهَا فِي أَحَادِيثِنَا فَإِنْ فَعَلَ مَا نَذَرَهُ مِنْ الْمَعْصِيَةِ , فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ. كَمَا لَوْ حَلَفَ لَيَفْعَلَنَّ مَعْصِيَةً , فَفَعَلَهَا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَلْزَمَهُ الْكَفَّارَةُ حَتْمًا ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَيَّنَ فِيهِ الْكَفَّارَةَ , وَنَهَى عَنْ فِعْلِ الْمَعْصِيَةِ.
¥