ثانيا: إن الدليل الناسخ – حسب دعواكم – من باب الفعل النبوي ([64])، وقد اختلف الأصوليون في حكاية الصحابي لفعل النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ ظاهره العموم هل تفيد العموم أو لا تفيده؟ على قولين رئيسين:
الأول: تفيد العموم ([65]).
الثاني: لا تفيد العموم ([66]).
قلت: وعلى أي من هذين القولين فإن التعارض الذي يحوج إلى القول بالنسخ منتف، وإليك تفصيل ذلك.
القول الأول (إفادة العموم)
قال الشيخ محمود السبكي عند شرحه لحديث جابر رضي الله عنه (كان آخر الأمرين .. ) في كتابه المنهل العذب المورود شرح سنن أبي داود ([67]).
( .. ولما كان لحم الإبل فرداً مما مسته النار وقد نسخ وجوب الوضوء منه بجميع أفراده فاستلزم نسخ وجوبه من لحم الإبل، فما قاله النووي ([68]) من أن هذا الحديث عام وحديث الوضوء من لحم الإبل خاص، والخاص مقدم على العام مندفع بأنا لا نسلم أن نسخه لكونه خاصاً، بل لأنه فرد من أفراد العام الذي نسخ، وإذا نسخ العام الذي هو وجوب الوضوء مما مست النار نسخ كل فرد من أفراده ومنه لحم الإبل …).
وأجيب بأنه لا تعارض من وجهين:
1 - إن الأمر بالوضوء من لحم الإبل لذاته وليس لأنه من مما مسته النار ولذا ينقض مطبوخاً ونيئاً كما بينا سابقاً.
يقول الإمام ابن قدامه في المغني ([69]):
(إن أكل لحوم الإبل إنما نقض لكونه من لحوم الإبل لا لكونه مما مست النار، ولهذا ينقض وإن كان نيئاً، فنسخ إحدى الجهتين لا يثبت به نسخ الجهة الأخرى، كما لو حرمت المرأة للرضاع ولكونها ربيبة، فنسخ التحريم بالرضاع لم يكن نسخاً لتحريم الربيبة).
2 - لو سلمنا جدلاً بأن الأمر بالوضوء من أكل لحم الإبل لكونه مما مسته النار، وسلمنا بالعموم في حديث جابر بن عبدالله رصي الله عنه فإنه لا تعارض يحوج إلى النسخ بل الجمع ممكن لأن دليلكم عام ودليل النقض بلحم الإبل خاص، والخاص يقدم على العام سواء كان قبله أو بعده ([70]) على رأي جمهور الأصوليين ([71]).
قلت: أما ما قاله صاحب المنهل العذب المورود في تعقيبه السابق على الإمام النووي من أن نسخ الوضوء بأكل لحم الإبل ليس لكونه خاصاً بل لكونه فرداً من أفراد العام الذي نسخ فكلام غريب حقاً لأن التخصيص كما يقرر الأصوليون ([72]) هو إخراج بعض ما كان داخلاً تحت العموم على تقدير عدم المخصص، أو بيان أن بعض مدلول اللفظ غير مراد بالحكم.
وهذا يقتضي إخراج لحم الإبل من أفراد العام (ما مسته النار) الذي حكم فيه بعدم النقض.
القول الثاني (عدم إفادة العموم)
قال العلامة ابن القاسم في حاشيته ([73]) على تحفة المحتاج - معلقاً على قول صاحب التحفة ([74]) عندما اعترض على أصحابه الشافعية القائلين بعدم النقض فقال: (ونوزعوا بأن فيه حديثين صحيحين ليس عنهما جواب شاف) -:
(أقول هذا ممنوع بل عنهما الجواب الشافي وهو جواب الأصحاب بنسخهما بحديث جابر وكان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما غيرت النار، وأما اعتراض النووي عليه بأن هذا الجواب ضعيف أمر باطل لأن حديث ترك الوضوء مما مسته النار عام وحديث الوضوء من لحم الجزور خاص والخاص مقدم على العام تقدم أو تأخر اه، فهو اعتراض باطل فإن هذين الحديثين ليسا من العام والخاص اللذين يقدم منهما الخاص مطلقاً، إذ عبارة جابر لم يحكها النبي صلى الله عليه وسلم حتى يكونا من ذلك، وإنما هي من عند نفسه بين بها ما عرفه من حال النبي صلى الله عليه وسلم وما استقر عليه أمره وذلك صريح في النسخ واطلاعه على تركه عليه الصلاة والسلام الوضوء مما غيرت النار مطلقاً، وهذا في غاية الوضوح
للمتأمل، فجواب الأصحاب في غاية الاستقامة والظهور).
وأجيب بالآتي:
1 - لو سلمنا جدلاً أن حديث جابر بن عبدالله صريح في النسخ فإنما هو نسخ للوضوء من أكل ما مسته النار، وقد ذكرنا سابقاً أن الوضوء من أكل لحم الإبل لذاته لا لكونه مما مسته النار، وهذا ظاهر لأن حديث الأمر بالوضوء من أكل لحم الإبل تضمن عدم وجوب الوضوء من أكل لحم الغنم و ےهو مما مسته النار.
¥