2 - إنه ليس في حديث جابر بن عبدالله ما يدل على نسخ الوضوء مما مسته النار صراحة كما تدعون، بل هو قضية عين وحكاية لفعل النبي صلى الله عليه وسلم أنه ترك في آخر الأمر الوضوء مما مسته النار، وكل ما تدل عليه أن أكل ما مسته النار لا يوجب الوضوء ([75]).
يوضح ما قلناه ما ذكره ابن أبي حاتم في كتابه علل الحديث ([76]) حيث قال:
(سألت أبي عن حديث رواه على بن عياش عن شعيب بن أبي حمزة عن محمد بن المنكدر عن جابر قال: كان آخر الأمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار، فسمعت أبي يقول: هذا حديث مضطرب المتن، إنما هو أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل كتفاً ولم يتوضأ، وكذا رواه الثقات عن ابن المنكدر عن جابر، ويحتمل أن يكون شعيب حدث به من حفظه فوهم فيه).
وقد فصل ابن حبان في صحيحه القول في هذا فقال ([77]) بعد ذكر حديث شعيب بن أبي حمزة السابق:
(هذا خبر مختصر من حديث طويل اختصره شعيب ابن أبي حمزة متوهماً لنسخ إيجاب الوضوء مما مست النار مطلقاً، وإنما هو نسخ لإيجاب الوضوء مما مست النار خلا لحم الجزور فقط).
ثم عنون ابن حبان بعد ذلك بقوله ([78]):
(ذكر الخبر المقتضي للفظة المختصرة التي ذكرناها:
] 1132 [أخبرنا عبدالله بن محمد الأزدي قال حدثنا إسحاق بن إبراهيم قال أخبرنا أبو علقمة ([79]) عبدالله بن محمد بن عبدالله بن أبي فروة المديني، قال: حدثني محمد بن المنكدر عن جابر قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أكل طعاماً مما مست النار ثم صلى قبل أن يتوضا، ثم رأيت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أكل طعاماً مما مسته النار ثم صلى قبل أن يتوضأ)
ثم عنون ابن حبان بعد ذلك في صحيحه ([80]) فقال:
(ذكر البيان بأن هذا الطعام الذي لم يتوضأ صلى الله عليه وسلم من أكله كان لحم شاة لا لحم إبل.
] 1134 [أخبرنا عمر بن محمد الهمداني، قال حدثنا الحسن بن خزعة، قال حدثنا محمد بن عبدالرحمن الطفاوي، قال: حدثنا أيوب ([81]) عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبدالله قال: دعت امرأة من الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم على شاة فأكل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فحضرت الصلاة فتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم عاد إلى بقيتها فأكلوا، فحضرت العصر فلم يتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم …
الرد الثالث: إن القرائن التي تحف بالدليل المدعى نسخه تؤكد عدم النسخ ومن ذلك:
1 - إن الدليل أمر بالوضوء من أكل لحم الإبل ولم يأمر به في لحم الغنم مع أنه لا فرق بينهما، فلو كان هناك نسخ بسبب مس النار لساوى بينهما. ([82])
2 - إن الدليل يدل على أن أكل ما مسته النار لا ينقض الوضوء حيث خير النبي صلى الله عليه وسلم السائل في الوضوء من لحم الغنم بين الفعل والترك، وهذا هو نفس ما يدل عليه الدليل الناسخ عندكم، فكيف يكون دليلنا منسوخاً؟.
3 - إن الدليل إذا كان منسوخاً لأنه من باب ما مسته النار – كما تقررون – فإن هذا يقتضي أن ينسخ شطر الحديث – عدم الأمر بالوضوء من لحم الغنم – شطره الآخر - الأمر بالوضوء من لحم الإبل – وهذا غير ممكن.
4 - إن الدليل أمر بالوضوء من لحم الإبل مع نهيه عن الصلاة في مباركها في سياق واحد مع ترخصه في ترك الوضوء من لحم الغنم وإذنه في الصلاة في مرابضها، أي أن الإبل اختصت بوصف قابلت به الغنم واستوجبت لأجله فعل التوضؤ وترك الصلاة، وهذا الحكم باق ثابت في الصلاة فكذلك ينبغي أن يكون في الوضوء ([83]).
المناقشة الثانية:
إن المراد بالوضوء في الدليل غسل اليدين والفم (الوضوء اللغوي) ([84]) لما يأتي:
أولا: الجمع بين الأحاديث الدالة على ترك الوضوء مما غيرت النار ([85]) وبين دليلكم الذي يأمر بالوضوء من أكل لحم الإبل، قال العلامة القرافي في الذخيرة ([86]):
(أكل ما مسته النار أو شربه لا يوجب وضوءاً خلافاً لأحمد في لحوم الإبل … لما في الموطأ ([87]) أنه عليه السلام أكل كتف شاة ثم صلى ولم يتوضأ، وأما الأحاديث الواردة في الوضوء فمحمولة على الوضوء اللغوي جمعاً بين الأحاديث).
وأجيب بما سبق من أنه لا تعارض بين دليلنا الذي يوجب الوضوء من أكل لحم الإبل وبين الأدلة الدالة على ترك الوضوء مما مستهالنار – كما بينا ([88]) سابقاً – فلا حاجة للجمع أصلاً.
¥