ثانياً: إن إطلاق الوضوء على غسل اليدين استعمال شائع في عرف الشرع، قال في رأب الصدع ([89]): (… حديث جابر بن سمرة والبراء متأولان على معنى النظافة ونفي الزهومة … وذلك استعمال شايع في عرف الشرع.
أقول: ولا يلتفت إلى القول بأن الوضوء في عرف الشرع إنما يطلق على غسل جميع أعضاء الوضوء، إذ يطلق في عرف الشرع على غسل اليدين، قال في النهاية ([90]): الوضوء قد يراد به غسل بعض الأعضاء).
ومن الأدلة على هذا الاستعمال ([91]) ما يلي:
· ما أخرجه الترمذي في جامعه ([92]) بسنده عن عِكْراش بن ذؤيب وفيه ( .. ثم أتينا بماء فغسل رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه ومسح ببلل كفيه وجهه وذراعيه ورأسه، وقال: يا عكراش هذا الوضوء مما غيرت النار).
· ما أخرجه البيهقي في سننه ([93]) بسنده عن معاذ بن جبل أنه قال:
(ليس الوضوء من الرعاف والقيء ومس الذكر وما مست النار بواجب فقيل له:
إن أناساً يقولون إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: توضؤوا مما مست النار، فقال: إن قوماً سمعوا ولم يعوا، كنا نسمي غسل اليد والفم وضوءاً وليس بواجب، وإنما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤمنين أن يغسلوا أيديهم وأفواههم مما مست النار وليس بواجب).
· ما أخرجه الترمذي في جامعه ([94]) بسنده عن سلمان الفارسي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بركة الطعام الوضوء قبله والوضوء بعده).
· ما أخرجه الطبراني في الأوسط بسنده عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الوضوء قبل الطعام وبعده مما ينفي الفقر وهو من سنن المرسلين. ([95])
· ما روى عنه صلى الله عليه وسلم من قوله (توضؤوا من اللبن فإن له دسما). ([96])
قلت: وقد بحثت عن هذا الحديث بهذا اللفظ في المصادر الحديثية المتوفرة عندي فلم أجده. ([97])
وأجيب بالآتي:
أ- لا يسلم لكم أن إطلاق الوضوء على غسل اليدين استعمال شائع في عرف الشرع لسببين:
الأول: الأدلة التي سيقت للدلالة على هذا الاستعمال غير ثابتة كما رأينا فلا حجة فيها.
الثاني: حديثا سلمان ومعاذ رضي الله عنهما ليس فيهما ما يدل على
الدعوى، بل هو استدلال بمكان النزاع، إذ كيف يفسر فيهما الوضوء الذي جاء مطلقاً أن المقصود به الوضوء اللغوي؟.
وحديث الوضوء من اللبن لم يثبت بلفظ الوضوء بل ثبت كما رأينا عند البخاري وغيره بلفظ المضمضة.
وأما حديثا معاذ وعكراش رضي الله عنهما فهما صريحان في تفسير
الوضوء مما مست النار بالوضوء اللغوي ولكنهما – مع ضعفهما سنداً – يخالفان ما ثبت عن جمع من الصحابة ([98]) والتابعين وعامة فقهاء الأمة من أن الوضوء مما غيرت النار يقصد به الوضوء الشرعي لا اللغوي. ([99])
قال الحافظ ابن عبدالبر في التمهيد ([100]):
(وذهب بعض من تكلم في تفسير حديث النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن قوله عليه السلام توضؤوا مما مست النار أنه عني به غسل اليد لأن الوضوء مأخوذ من الوضاءة وهي النظافة، فكأنه قال: فنظفوا أيديكم من غمر ([101]) ما مست النار، ومن دسم ما مست النار، وهذا لا معنى له عند أهل العلم ولو كان كما ظن هذا القائل لكان دسم ما لم تمسه النار، وودك ([102]) ما لم تمسه النار لا يتنظف منه، ولا تغسل منه اليد، وهذا لا يصح عند ذي لب.
وتأويله هذا يدل على ضعف نظره، وقلة علمه بما جاء عن السلف في هذه المسألة).
ب- إن إطلاق لفظ الوضوء على الوضوء للصلاة في استعمال الشارع هو من باب الحقيقة الشرعية للآتي:
· إنه لفظ استعمل في ما وضع له بوضع الشارع. ([103])
· إنه هو المتبادر إلى الذهن عند الإطلاق، وهذه علامة
الحقيقة ([104]).
· إن التأويل – وقد أقرَّبه المخالفون – لا يكون إلا على خلاف الأصل (الوضوء الشرعي).
قال الإمام الخطابي في معالم السنن ([105]):
(… وأما عامة الفقهاء فمعني الوضوء عندهم متأول على الوضوء الذي هو النظافة ونفي الزهومة …).
وإذا كان الوضوء للصلاة من باب الحقيقة الشرعية فإنه عند الإطلاق يصرف إلى المعنى الشرعي لا اللغوي ما لم يوجد دليل يصرفه إلى المعنى اللغوي ([106]).
· (إنه لا يطلق الوضوء في الشريعة إلا لوضوء الصلاة فقط، وقد أنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم إيقاع هذه اللفظة على غير الوضوء
¥