الدليل الأول: ما أخرجه الإمام أبو داود ([160]) – وغيره ([161]) – في سننه بسنده عن جابر بن عبدالله قال (كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم: ترك الوضوء مما غيرت النار).
درجته: صحح الحديث ابن خزيمة ([162]) والنووي ([163]) وأحمد ([164]) شاكر والألباني ([165]).
وجه الدلالة: إن لحم الإبل فرد من أفراد ما غيرت النار، والدليل يدل على نسخ وجوب الوضوء مما غيرت النار لأن النبي صلى الله عليه وسلم ترك في آخر الأمر الوضوء من أكل ما غيرت النار وهذا يستلزم أن لا يكون أكل لحم الإبل ناقضاً للوضوء.
قلت: وقد سبق رد دعوى النسخ هذه في المناقشة الأولى وبيان ما أورد على هذا الحديث من إشكال.
الدليل الثاني: ما أخرجه البيهقي في سننه ([166]) من حديث ابن عباس مرفوعاً: (إنما الوضوء مما خرج وليس مما دخل).
وجه الدلالة: إن الدليل حصر نواقض الوضوء فيما يخرج من البدن نجساً ولا يوجد ذلك في أكل لحم الإبل لأنه داخل للبدن فلا يكون ناقضاً ([167]).
ونوقش الدليل بالآتي:
إن الحديث المرفوع ضعيف من ناحية السند فلا حجة فيه، ولكنه ثبت موقوفاً من قول ابن عباس ([168]) وغيره.
أ - لو سلمنا جدلاً بصحة الحديث فإنه لا يدل على الدعوى لما يلي:
ب - إن حديث النقض بأكل لحم الإبل أخص منه والخاص يقدم على العام جمعاً بين الأدلة ([169]).
ج - إن حديث النقض أصح منه فيجب تقديمه عليه مع افتراض عدم إمكان الجمع ([170]).
د- إن الحديث محمول على غير لحم الإبل ([171])، وإنما هو في ترك الوضوء مما غيرت النار، وسياق الحديث في سنن البيهقي يشير إلى ذلك إذ جاء فيه:
(… عن ابن عباس أنه ذكر عنده الوضوء من الطعام … فقال: إنما الوضوء مما خرج وليس مما دخل) ([172])، ولهذا قال الإمام البيهقي في سننه ([173]):
(وروينا عن علي بن أبي طالب وابن عباس الوضوء مما خرج وليس مما دخل، وإنما قالا ذلك في ترك الوضوء مما مست النار).
الدليل الثالث: ما أخرجه البزار في مسنده ([174]) بسنده عن أبي بكر الصديق أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (لا يتوضأن أحدكم من طعام أكله، حلّ له أكله) ([175]).
وجه الدلالة: إن الدليل نفى وجوب الوضوء من مطلق طعام مباح فدخل في ذلك لحم الإبل.
ونوقش الدليل بالآتي:
1 - إن الحديث ضعيف ([176]) فلا حجة فيه.
2 - إن الدليل – على فرض صحته – عام ودليل النقض بلحم الإبل خاص فيقدم الخاص على العام كما هو مقرر في الأصول.
الدليل الرابع ([177]):
إن عدم النقض قول جمهور الصحابة والخلفاء الراشدين الذين أمرنا ([178]) باتباعهم.
ونوقش الدليل بالآتي:
1 - إن هذه دعوى تحتاج إلى دليل، إذ أين النقل الصحيح في ذلك عن جمهور الصحابة والخلفاء الراشدين ([179])؟
2 - إن من نقل ذلك عنهم كالإمام النووي رحمه الله كان واهماً.
يقول الإمام ابن تيمية في القواعد النورانية ([180]).
(… وأما من نقل عن الخلفاء الراشدين أو جمهور الصحابة خلاف هذه المسائل وأنهم لم يكونوا يتوضؤون من لحوم الإبل فقد غلط عليهم، وإنما توهم ذلك لما نقل عنهم أنهم كانوا لا يتوضؤون مما مست النار، وإنما المراد أن كل ما مس النار ليس هو سبباً عندهم لوجوب الوضوء، والذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من الوضوء من لحم الإبل ليس سببه مس النار …).
قال المحدث الألباني في تمام ([181]) المنة معقباً على ما ذكره ابن تيمية:
(قلت: ويؤيد ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن الطحاوي –1/ 41 - ، والبيهقي –1/ 157 - رويا عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه أنا أبا بكر الصديق وعمر بن الخطاب أكلا خبزاً ولحماً فصليا ولم يتوضيا، ثم أخرجا نحوه عن عثمان، والبيهقي عن علي.
فأنت تري أنه ليس في هذه الآثار ذكر للحم الإبل البتة، وإنما ذكر فيها اللحم مطلقاً وهذا لو كان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لوجب حمله على غير لحم الإبل دفعاً للتعارض، فكيف وهو عن غيره صلى الله عليه وسلم، فحمله على غير لحم الإبل واجب من باب أولى، حملاً لأعمالهم على موافقة الشريعة لا على مخالفتها، ولذلك أورد الطحاوي والبيهقي هذه الآثار في باب الوضوء مما مست النار …).
3 - إن الآثار التي رويت عن بعض الصحابة والتي تدل على عدم النقض ضعيفة وهي:
¥