وأما القياس فيقال: أي فرق بين من أراد أن يقيم ستاًّ وتسعين ساعة ومن أراد أن يقيم سبعا وتسعين ساعة؟! حيث ينقطع حكم السفر في حق الثاني دون الأول، مع أن كل واحد منهما لا يريد إقامة مطلقة وإنما أراد إقامة مربوطة بحاجة أو عمل متى حصل واصل سفره، وكل منهما يعتبر نفسه غريبا في محل إقامته، وظاعناً عنه فأي فرق بينهما؟! ولا يرد على هذا التنظير بالفرق بين شخص له خمس عشرة سنة إلا ساعة، وشخص له خمس عشرة سنة كاملة حيث يقضي للثاني بالبلوغ دون الأول؛ لأن مسألة البلوغ فرق الشارع فيها بين حال البلوغ وعدمها، وجعل لكل حال حكماً، فلابد من التمييز بين الحالين بضابط يفصل بينهما، وهو تمام خمس عشرة سنة عند من اعتبر البلوغ بهذا السن، وإلا لما أمكن معرفة ذلك، بخلاف إقامة المسافر فإن الشارع لم يفرق فيها بين الحالين، ولم يجعل لكل حال حكماً، قال شيخ الإسلام ابن تيميه في الفتاوى ص 138 ج 24: ((والتمييز بين المقيم والمسافر بنية أيام معدودة يقيمها 184 من المجلد المذكور: ((وقد بين في غير هذا الموضع أنه ليس في كتاب الله، ولا سنة رسوله صلي الله عليه وسلم إلا مقيم ومسافر، والمقيم هو المستوطن، ومن سوى هؤلاء فهو مسافر يقصر الصلاة)، وقد قال قبل ذلك ص 137 من المجلد المذكور: ((فمن جعل للمقام حدًّا من الأيام: إما ثلاثة، وإما أربعة، وإما عشرة، وإما اثني عشر، وهي تقديرات متقابلة، وقد تضمنت هذه الأقوال تقسيم الناس إلى ثلاثة أقسام إلى مسافر، وإلى مقيم مستوطن –إلى أن قال- والثالث مقيم غير مستوطن، وأوجبوا عليه إتمام الصلاة، والصيام، وأوجبوا عليه الجمعة وقالوا: (لا تنعقد به وإنما تنعقد بمستوطن، وغير مستوطن، وغير مستوطن تقسيم لا دليل عليه من جهة الشرع).أ هـ.
ومن العجب أن بعض المحددين بأربعة أيام قال: إذا لم نوجب الإتمام على من نوى إقامة أكثر من أربعة أيام لزم أن يقصر الصلاة من نوى إقامة سنين متعددة ولا قائل به.
والجواب على هذا نقول إذا أن هذا مقتضى النص فلا حاجة إلى أن نعلم قائلاً به؛ لأن النص وحده كاف عن كل قول، وقد سبق لك أن هذا هو مقتضى النصوص في ظاهر عموماتها وإطلاقاتها.
وأيضا فقد قال به من نقلنا قوله من الصحابة، والتابعين في ظاهر ما روي عنهم. وأيضا هو مذهب الأئمة الثلاثة مالك، وأبي حنيفة، وأحمد فيما إذا أقام لحاجة لا يدري متى تنقضي ولو أقام سنين، وأحد الأقوال في مذهب الشافعي، وقال ابن المنذر أجمع أهل العلم على أن للمسافر أن يقصر ما لم يجمع إقامة، وإن أتى عليه سنون نقله عنه ابن القيم في زاد المعاد ص 30 ج 3.
وبهذا تبين أن مقتضى النصوص، وأقوال السلف، والنظر، والقياس الصحيح: أن المسافر إذا كانت إقامته مقيدة بحاجة، أو زمن ومتى زال ذلك القيد رجع إلى وطنه، فإن إقامته هذه لا تقطع حكم السفر، وله أن يترخص فيها ترخص المسافر ولو طالت مدة الإقامة ولو نواها من قبل، فمن طابت نفسه بذلك فليعمل به فإنه حق –إن شاء الله- ومن لم تطب نفسه به وأراد أن يعمل بقول من يفرق بين تقييد الإقامة بزمن وتقييدها بحاجة أو عمل على ما سبق تقريره فنرجو أن لا يكون عليه حرج في ذلك إن شاء الله تعالى.
وهذا بالنسبة لقصر الصلاة وتقدير مدة المسح على الخفين بثلاثة أيام واضح لدينا لا نتوقف في الإفتاء فيه وأما في صيام رمضان فلا ريب أن من جاز له القصر جاز له الفطر، وأن الإنسان مادام على سفر فله الفطر بالنص والإجماع، لكن تأكد الفطر ليس كتأكد القصر ولذلك لم يصح عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه أتم الصلاة في سفره أربعاً، ولا صح عن أحد من أصحابه معه، وأما الصوم فصح أن الصحابة معه منهم الصائم، ومنهم المفطر، ولم يعب بعضهم بعضا، بل صح عنه صلي الله عليه وسلم أنه كان مع أصحابه في سفر في يوم شديد الحر وليس فيهم صائم سوى رسول الله صلي الله عليه وسلم وعبد الله بن رواحة ([13]).
وكان ابن حزم –رحمه الله- يرى أن المسافر إذا أقام في خلال السفر يوماً وليلة وجب عليه الصوم، وإن جاز له القصر إلى تمام واحد وعشرين يوماً تم الصلاة على رأيه.
وعلى هذا فنقول: ينبغي للمقيم من المسافرين أن يصوم رمضان في قوته، ولا يؤخره إلا أن يصادف ذلك أيام حر ويكون عليه فيه شيء من المشقة فله الفطر ويقضيه في الأيام الباردة من السنة ولا يؤخره إلى رمضان الثاني خشية أن تتراكم عليه الشهور فيثقل عليه قضاؤها أو يعتذر. والله أعلم.
جواب السؤال الخامس:
هؤلاء الطيارون الذين يبقون لمدة ثلاث سنوات ونحوها لتعلم الطيران والتدرب عليه في حكم المسافرين على القول الراجح، الذي قررناه بأدلته في جواب السؤال الرابع، لكن الأولى أن يحصلوا على فرصة يصومون بها رمضان في سنته ولو متقطعاً، ولا يؤخرونه للسنة الثانية لئلا تتراكم عليهم الشهور فيثقل عليهم قضاؤها أو يتعذر.
جواب السؤال السادس:
إذا حانت صلاة المغرب وأنت تجوب طرق المدينة الكبيرة، ولم يتيسر لك الوقوف في مكان تؤدي به صلاة المغرب، فلا حرج عليك أن تؤخرها بنية الجمع بينها وبين صلاة العشاء؛ لأنك معذور بعذرين:
أحدهما: السفر على القول الراجح الذي قررناه.
والثاني: الحرج والمشقة عليك بصلاة المغرب في وقتها، وفي صحيح مسلم عن ابن عباس: أنه خطب يوماً بعد العصر حتى غربت الشمس وبدرت النجوم، فجاءه رجل من بني تميم لا يفتر ولا ينثني يقول: الصلاة الصلاة، فقال ابن عباس: أتعلمني بالسنة. رأيت النبي صلي الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، وفي رواية عنه قال: جمع النبي صلي الله عليه وسلم بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء في المدينة من غير خوف ولا مطر، فقيل لابن عباس ما أراد إلى ذلك؟ قال: أراد أن لا يحرج أمته.
والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
فتاوى ابن عثيمين:المجلد الخامس عشر
¥