ها أنتم أيها الأسرى في فلسطين وكوبا! من المجاهدين والعلماء والدعاة؛ قابعون في سجون الظلم والاستبداد، تكابدون الآلام والأوجاع، وتعانون شماتة الأعداء، وتوجع الأحباء، فاللهم ثبت قلوبهم على دينك، وارفع درجتهم في جنتك.
لكنكم موقنون أن الأسير من أسره هواه، والمحبوس من حبسه هواه، وأنتم جاهدتم أنفسكم وأعداءكم في سبيل الله تعالى، وقمعتم أهواءكم في مرضاة الله ـ تعالى ـ: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 40 - 41]، ومن يرد الله به خيراً يُصب منه.
فيا معشر الأحرار الكرام! تذكروا مقالة الإمام مالك بن أنس: «لا تغبطوا أحداً لم يُصبه في هذا الأمر بلاء»، وتذكروا أن أسلافكم الأوائل ابتُلوا بذلك؛ فإن الإمام أحمد بن حنبل «قد تداوله ثلاثة خلفاء (1) مسلطون من شرق الأرض إلى غربها، ومعهم من العلماء المتكلمين، والقضاة، والوزراء، والسعاة، والأمراء والوالاة مَنْ لا يحصيهم إلا الله، فبعضهم بالحبس، وبعضهم بالتهديد الشديد بالقتل وبغيره، وبالترغيب في الرياسة والمال ما شاء الله، وبالضرب، وبعضهم بالتشريد والنفي. وقد خذله في ذلك عامة أهل الأرض، حتى أصحابه العلماء، والصالحون والأبرار، وهو مع ذلك لم يعطهم كلمة واحدة مما طلبوه، وما رجع عما جاء به الكتاب والسنة» (2).
وسُجن الإمام البويطي ـ صاحب الشافعي ـ ووُضع الغُلّ في عنقه، والقيد في رجليه، وكان يقول: لأموتن في حديدي هذا، حتى يأتي قوم يعلمون أنه قد مات في هذا الشأن قوم في حديدهم.
وكان البويطي وهو في الحبس يغتسل كل جمعة، ويتطيب، ويغسل ثيابه، ثم يخرج إلى باب السجن إذا سمع النداء، فيردّه السجان، فيقول البويطي: اللهم! إني أجبت داعيك فمنعوني.
وكتب البويطي إلى الذهلي: «أسألك أن تعرض حالي على إخواننا أهل الحديث، لعل الله يُخلِّصني بدعائهم، فإني في الحديد، وقد عجزتُ عن أداء الفرائض؛ من الطهارة والصلاة. فضجّ الناس بالبكاء والدعاء له».
قال السبكي: انظر إلى هذا الحبر ـ رحمه الله ـ لم يكن أسفه إلا على أداء الفرائض، ولم يتأثر بالقيد ولا بالسجن، فرضي الله عنه، وجزاه عن صبره خيراً (3).
ولما سُجن علي بن الجهم أنشد أبياتاً رائعة، منها:
قالوا حُبستَ فقلتُ ليس بضائري ... حبسي، وأي مهند لا يُغمدُ؟!
والشمس لولا أنها محجوبة ... عن ناظرَيْك لما أضاء الفرقدُ
والبدر يدركه السرار فتنجلي ... أيامه وكأنه متجددُ
والحبس إن لم تغشه لدنِيَّة ... في الدهر نعم المنزل المتوددُ
وسُجن شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ سبع مرات، وكان سجنه أسوأ من سجن النصارى، كما قال ـ في مناظرته لمخالفيه بشأن العقيدة الواسطية ـ: «ثم النصارى في حبس حسن، يشركون فيه بالله، ويتخذون فيه الكنائس، فيا ليت حبسنا كان من جنس حبس النصارى، ويا ليتنا سُوّينا بالمشركين وعبّاد الأوثان! بل لأولئك الكرامة ولنا الهوان .. وبأي ذنب حُبس إخوتي في دين الإسلام؛ غير الكذب والبهتان؟!» (4).
ومع ذلك كله؛ فإن ابن القيم يحكي حال شيخه في سجن القلعة بدمشق فيقول: «وكان [ابن تيمية] يقول في محبسه في القلعة: لو بذلت لهم ملء هذه القلعة ذهباً ما عدل عندي شكر هذه النعمة. أو قال: ما جزيتهم على ما تسببوا لي من الخير.
وعلم الله؛ ما رأيت أحداً أطيب عيشاً منه قط .. وكنا إذا اشتد بنا الخوف، وساءت بنا الظنون، وضاقت بنا الأرض؛ أتيناه فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه فيذهب ذلك كله، وينقلب انشراحاً وقوة ويقيناً» (5).
وإن الواجب علينا تجاه إخواننا الأسرى أن نسعى إلى المطالبة بإطلاق سراحهم، وتبني قضاياهم وشؤونهم، والسعي إلى فك العاني بالفدية، والترغيب في ذلك، والدعاء والقنوت لهم.
فلقد وصف الله ـ تعالى ـ عباده الأبرار بقوله ـ سبحانه ـ: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان: 8].
ودفع الخليفة العباسي المتقي بالله منديلاً يقال إنه لعيسى ـ عليه السلام ـ لملك الروم؛ مقابل إطلاق عدد كثير من أسرى المسلمين كما أفتى الفقهاء (6).
¥