فصوفية الجنيد والفضيل في ذاكرة التاريخ وبطون الكتب، فليس لها حضور أو ظهور عند الصوفية المعاصرة.
وأما التعويل على كلام شيخ الإسلام وما فيه من تقرير للتصوف الصحيح، فهذا ينطبق على العبّاد الأوائل من أمثال المذكورين ـ الجنيد والفضيل ـ ونحوهما.
وأما صوفية عصره، فقد حكى حالهم من خلال واقعهم وصنيعهم، فلم يكتف بمجرد التنظير، أو التقسيم لتصوف صحيح وفاسد، بل كشف شيخ الإسلام ابن تيمية عن مخالفة أولئك الصوفية لأصول ثلاثة كبار: (التوحيد، والاتباع، والجهاد) فقد تلبّسوا بالشرك الخفي والجلي، وأحدثوا بدعاً متعددة، «وأما الجهاد في سبيل الله، فالغالب عليهم أنهم أبعد عنه من غيرهم» (4).
ويقول ـ رحمه الله ـ: «وهؤلاء يدّعون محبة الله في الابتداء، ويعظمون أمر محبته، ويستحبون السماع بالغناء والدفوف، ويرونه قربة؛ لأن ذلك بزعمهم يحرّك محبة الله في قلوبهم، وإذا حُقق أمرهم وجدتَ محبتهم تشبه محبة المشركين لا محبة الموحدين؛ فإن محبة الموحدين بمتابعة الرسول والمجاهدة في سبيل الله.
وهؤلاء لا يحققون متابعة الرسول، ولا الجهاد في سبيل الله، بل كثير منهم ـ وأكثرهم ـ يكرهون متابعة الرسول، وهم من أبعد الناس عن الجهاد في سبيل الله، بل يعاونون أعداءه، ويدّعون محبته» (5).
إن ترك الجهاد في سبيل الله هو النتاج الطبيعي لمذهب يقول بالجبر وتعطيل الشرائع، كما أن إلغاء الجهاد عندهم هو محصلة ما يقررونه في السلوك من تربية المريدين على الاستعباد وعدم الاعتراض على الأشياخ.
يقول الشيخ محمد الغزالي ـ رحمه الله: «إن الدّجالين من رجال الطرق الصوفية كانوا يربون أتباعهم على التواضع بشتى الطرق المهينة، فإذا رأوا أنفة في مسلك أحدهم، أو دلائل عزة وترفع، جعلوا عليه مهمة حمل أحذية الجماعة، والمحافظة عليها، حتى تنكسر نفسه، وينخفض رأسه؛ وبذلك يكون مرشحاً لعبادة الله كما يجب.
ولم يَدْر المغفلون أنهم يرشحونه أيضاً ليكون عبداً للناس جميعاً، وأن مثل هذا الكائن الممسوخ هو أمل المستعمرين الذين يقيمون وجودهم على إذلال الأمم، وقتل الشعور بالكرامة في نفوس بنيها» (6).
وأما كون بعض الحركات الجهادية لا تخلو من تصوف كالحركة السنوسية، فهذه الحركات إنما تُحمد بقدر اتباعها لنصوص الوحيين، وجهاد تلك الحركات باعثه تحقيق التوحيد واتباع سنة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، فما كان التصوف باعثاً للجهاد.
فالسنوسية ـ مثلاً ـ تؤكد على تصحيح العقيدة وفق منهج أهل السنة، وكان أتباعها يتدارسون مقدمة بن أبي زيد القيرواني، بل إن السنوسي انتقد ممارسات الصوفية في عصره .. كما هو مبسوط في موضعه» (7).
إن الطرق الصوفية المعاصرة ـ إجمالاً ـ تترنح بين ابتداع ما لم يشرعه الله، وبين شرك ما أنزل الله به من سلطان، وهم في ذلك ما بين مستقلّ ومستكثر؛ ومن ذلك أن واحداً من المتصوفة المعاصرين والجاثمين على أكثر من قناة فضائية، يظهر للعامة والدهماء بصورة الواعظ المشفق، وربما بكى أو تباكى، وقد يدعو مخالفين إلى نقاش هادئ من خلال الكتاب والسنة.
وإذا خلا مع خاصته، تحدّث بلغة «الحقيقة» و «الباطن» فقلب ظهر وظاهر المجن، واستبدل بالنقاش الهادئ إقذاعاً في سبّ مخالفيه (أهل السنة) ووصفهم بالبلادة والجهل وانطماس البصيرة، وتجلى كشفه عن فجور في الخصومة مع جهل كثيف بأحاديث المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، فقد يحتج بأحاديث لا تثبت، وقد يردّ الأحاديث الصحيحة، مع تعويل على غرائب حكايات منكرة لا خطام لها ولا زمام.
ثم مع هذا كله فهو داعية إلى الوثنية؛ فقد جوّز دعاء الأموات، وزعم أن من استغاث بعبد القادر الجيلاني فإن عبد القادر يأتي إليه بروحه، أو بروحه وجسده. ثم تراه ساخراً ومتهكماً بتوحيد العبادة واصفاً إياه بالتوحيد الإبليسي؛ فعلى دعاة الإسلام أن يحذِّروا من أفراخ عمرو بن لحي، وأن يكشفوا عن تلوّنهم وتقلّب آرائهم بين المجلات والقنوات، وبين الزاويا والخلوات، فهذا هو العدل الذي يستحقونه، فالعدل هو أن توضع الأمور في مواضعها، والنقاط على حروفها.
¥