[رسالة إلى الملتقى .. (الرسالة الأولى)]
ـ[ابن أبي حاتم]ــــــــ[15 - 09 - 05, 10:32 م]ـ
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى الملتقى المبارك: ملتقى أهل الحديث نفعني الله بعلومه
سلام عليك ورحمة الله وبركاته ..
تعثرت كلماتي، وتبعثرت خواطري، وتشتت ذهني، وخانني قلمي، فما عساي أن أرقم لك _ أيها الملتقى المبارك _ بعد طول غياب، ولا أدري ما موقفك مني؛ هل ستعذلني يا ملتقى، أم ستعذرني ..
لكن لعلك حين تعلم أني لم أنقطع عنك (حين انقطعت) إلا لما وصلتك به، ووصلتني به، بل إني وجدتك معي فيما قرأتُ وكتبتُ وبحثت، ومع ذلك أجدني بين الفينة والأخرى بين يدي جهازي أضغط حروفَه، وأحرك ساكنَه، وأبث الحياةَ فيه = لأراك وأنظر إليك، وإن كنت معي في كل صفحة قرأتها، وكل حرف كتبته، وكل فائدة دونت، وكل مسألة حُررت.
لكني جئت الآن، وقد بلغ بي الشوق مداه، لأكتب لك، وأنا حائر فيما عساك أن تعذلني به، أو تعذرني فيه.
فلا تظنن _ رعاك الله _ أني استبدلت بالوصال جفاء، وبالحب بغضاً، فوالله ما نسيتك، وما كنت لأنساك ما بقي فيّ نفس يتردد، وعقل يفكر، وقلب ينبض ..
بيد أني _ أحسن الله إليك _ جئتك لأبثك شكواي في أمر جللٍ، حيرني، وشتت فكري، فرأيت أنه لا بد لي من الكتابة فيه إليك؛ فتشير علي بما عهدتك به، من رجاحة عقل، وحسن منطق، وسداد رأي ..
أيها الملتقى ..
تعلمت منك الصدقَ في طلب مناهجِ الأئمة المتقدمين في تصحيح الأحاديث وتضعيفها، اعترافاً بفضلهم، وحفظاً لسابقتهم، لا سيما أن الله اصطفاهم الله لحفظ سنته، فكانوا له خير حفظة، و خير نقدة، وخير نصحة.
وإني _ أبقاك الله _ حين تأملت طرائقهم ومناهجهم في التقرير، وشذراً من سيرهم وأحوالهم في التحصيل = وجدت أنهم لم يُحصلوا ما حصلوا، واستحقوا هذه الرتبة، إلا بإفناء الإعمار، واضناء المهج، وقطع الأسفار، وبذل كل غالٍ ونفيس في تحصيل العلم، حاديهم قول يحيى بن أبي كثير: (لا يستطاع العلم براحة الجسد)، وقول الآخر: (أعطِ العلم كلك لعله يعطيك بعضه).
وكنت أعجب من حال المتأخرين، حيث إني وجدت أن منهم من بذل في العلم كلَّه، ووجدت أن الأئمة حصلوا العلم متفرقاً في الأمصار، ففَنَت أعمارُهم في جمعِ شتاته، وتصنيف أبوابه، والسفرِ في تحصيله، ثم رأيت المتأخرَ قد تيسَّر له ما لم يتيسر لمن تقدم، فجُمِع له ما كان أشتاتا، وقرب له ما كان بعيداً، وكلما تأخر الوقت ازداد التيسير والجمع، ومع ذلك فما زال البون شاسعاً، بل إن الوصول إلى تحصيلهم محال، بل أبعد من المحال!!.
وما زلت أعيد النظر في أسباب ذلك الكرة بعد الكرة، فلم أجد إلى ذلك جواباً شافياً، حتى فوجئت بنص عن الإمام مالك _ رحمه الله _ أرَّقَ مضجعي وحيَّر لُبِّي، مما جعلني أُعيد النظر فيما حصلوا من علم = هل كان ببذل ما بذلوه، وإنفاق ما أنفقوه، أم كان وراء ذلك سرٌّ من الأسرار، يحتاج إلى كشفه، فكتبت إليك لعلك تعينني على كشفه؛ كما كشفت لي عن منهجهم في التعليل والتصحيح ..
وإليك _ أدام الله ودك _ هذا النص، لعلك تنظر فيه معي، فتسعفني في كشف حيرتي، وتنوير بصيرتي، لعلي أجد منك جوابا شافيا لما تلجلج في خاطري في هذا الأمر العظيم ..
قال الإمام مالك رحمه الله:
«العلم حكمة ونور، يهدي الله به من يشاء، ليس بكثرة المسائل».
وفي رواية عنه: «إن العلم ليس بكثرة الرواية إنما العلم نور يقذفه الله في القلب».
وفي لفظ عنه: «العلم نور يجعله الله حيث يشاء، ليس بكثرة الرواية».
ثم وجدت _ رعاك الله _ بعض من تعلمت على يديك أنهم ممن اعتنوا بكشف مناهج الأئمة والسير على مناهجها، من أخذوا بمناكب هذا القول، مع أنهم كان لهم من الحرص على التحصيل الشيء العظيم، ثم جاؤوا ليقولوا:
العلم نورٌ يقذفه الله في القلب.
فإن يكن الأمر كما قيل، ففيم العمل؟!
فوجدت: وكيع ابن الجراح، وسحنون، وابن تيمية، والذهبي، وابن القيم، وابن رجب، وابن باز _ رحمهم الله رحمة واسعة _، كلهم يقول هذه المقولة!!
فما زلت أنظر، وأتأمل في كشف هذا المعنى، حتى استنارت لي ملامح هذا الخلاف بيننا وبينهم، حتى كأنه ظهر لي أن الخلاف منهجي، لا يقل خلافاً عن الاختلاف في التصحيح التضعيف، إذ القول في المسألتين، كالأصل مع الفرع.
¥