فإني _ أيدك الله _ حين نظرت طريقتهم في طلبهم للعلم وجدت أنهم حين علموا أن العلم من الله، فطلبوه منه سبحانه، قبل أن يطلبوه على الأشياخ، فثنوا جباههم لله يطلبون منه أن يفتح قلوبهم، وينور بصائرهم، وأن يهيئهم لنيل العلم والتحصيل، قبل أن يثنوا ركبهم في حلق أهله!!
وهاهو _ أسعد الله أيامك _ ابن القيم _ رحمه الله _ يصف تطبيق هذا المنهج عند المفتي الموفق، وذاكراً شيئا من حال شيخ الإسلام ابن تيمية _ رحمه الله _:
«ينبغي للمفتي الموفق إذا نزلت به المسألة أن ينبعث من قلبه الافتقار الحقيقي الحالي، لا العلمي المجرد إلى ملهم الصواب , ومعلم الخير , وهادي القلوب= أن يلهمه الصواب , ويفتح له طريق السداد , ويدله على حكمه الذي شرعه لعباده في هذه المسألة , فمتى قرع هذا الباب فقد قرع باب التوفيق , وما أجدر من أمل فضل ربه: أن لا يحرمه إياه , فإذا وجد من قلبه هذه الهمة فهي طلائع بشرى التوفيق , فعليه أن يوجه وجهه ويُحدِّق نظره إلى مَنبع الهدى، ومعدن الصواب، ومطلع الرشد , وهو النصوص من القرآن والسنة وآثار الصحابة , فيستفرغ وسعه في تعرف حكم تلك النازلة منها , فإن ظفر بذلك أخبر به.
وإن اشتبه عليه بادر إلى التوبة والاستغفار , والإكثار من ذكر الله , فإن العلم نور الله يقذفه في قلب عبده , والهوى والمعصية رياح عاصفة تطفئ ذلك النور أو تكاد , ولا بد أن تضعفه.
وشهدت شيخ الإسلام _ قدس الله روحه _ إذا أعيته المسائل واستصعبت عليه = فر منها إلى التوبة والاستغفار , والاستغاثة بالله واللجأ إليه , واستنزال الصواب من عنده , والاستفتاح من خزائن رحمته , فقلما يلبث المدد الإلهي أن يتتابع عليه مدا , وتزدلف الفتوحات الإلهية إليه بأيتهن يبدأ , ولا ريب أن من وفق هذا الافتقار علما وحالا , وسار قلبه في ميادينه بحقيقة وقصد فقد أعطي حظه من التوفيق , ومن حرمه فقد منع الطريق والرفيق , فمتى أعين مع هذا الافتقار ببذل الجهد في درك الحق فقد سلك به الصراط المستقيم , وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم».
ويقول:
«حقيق بالمفتي أن يكثر الدعاء بالحديث الصحيح: (اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون , اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك , إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم) وكان شيخنا كثير الدعاء بذلك , وكان إذا أشكلت عليه المسائل يقول " يا معلم إبراهيم علمني "»
وأما ملامح منهج المتأخرين في هذا الجانب، فلن أجد لك _ وفقك الله_ مثالاً أبلغ من نفسي، فأذكر مرة أن شيخي العلامة محمد بن صالح بن عثيمين رحمه الله، كان قد توقف في مسألة، وقال: إني لم أجد من سبق ابن حزم فيها، ولو وجدت لاطمأننت إلى القول بما قال، فبحثت، وتعبت، وجزمت ورجحت وانتهيت!!
ثم جئت الشيخ رحمه الله فرحاً مخبراً له بما أنجزت، فلما عرضت عليه الأقوال المرة بعد المرة، حتى تيقن بوجود سابق لابن حزم، فسألته: ما تقول؟ فقال بعدما شكر جهدي، ودعا لي بخير: وأنا أستخير الله في هذه المسألة!!
فكانت كلمته _ رحمه الله _ إضاءة لي في كشف هذه المنهج، وأجدني _ رعاك الله _ غير محتاج إلى أن أذكر لك أن شيخنا كان على منهج المتقدمين في هذه المسألة نحسبه والله حسيبه، ولا نزكي على الله أحداً.
وأعتذر لك _ أيها الملتقى الحبيب _ إذ لم أتمكن من إنهاء ما تلجلج في خاطري في هذه المسألة، وإن كنت أظن أن ملامح هذا الفرق غير مقتصر بهذه المسألة فحسب، لعلي أبعثها إليك؛ لتنظر فيها، غير أن المرجو منك _ أن تنظر فيه، فإن رأيت فيه سداد قول، وصواب رأي، فلعلك نشره في ساحتك، وتذيعه عند زوارك، موصياً لهم بالدعاء لي بالتوفيق والسداد، بظهر الغيب، وإن يكن فيه خطل قول، أو ضلال فكر، فإني كما تعلم أقبل النصح، والنقص من سمت البشر.
ولعلي أرسل إليك تتمة ما أردتُ في رسالة أخرى
والسلام
محبك: ابن أبي حاتم.
ـ[أبو فهر السلفي]ــــــــ[16 - 09 - 05, 02:12 ص]ـ
بعض الكلام يأخذ بمجامع قارئه حتى إذا أراد التعليق عليه مظهرا سروره له وإعجابه به، استغلق عليه الأمر وأضحى لسانه مضغة لحم خرساء تجوب الحنك لا يدري ما يقول.
ولنا عودة/أبو فهر
ـ[عبدالرحمن الفقيه]ــــــــ[16 - 09 - 05, 10:16 ص]ـ
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
مرحبا وأهلا وسهلا بالشيخ الفاضل، وحمدا لله على سلامتكم، وكتب الله لكم أجر صبركم واحتسابكم.
واصل وصلك الله بالطاعة، ورفع لكم في العلم منارة.
ـ[أبو عبدالله الجبوري]ــــــــ[16 - 09 - 05, 01:42 م]ـ
جزاكم الله خيرا ...
وفي سنن الدارمي عن ابن مسعود، رضي الله عنه: " كيف أنتم إذا لبستم فتنة يهرم فيها الكبير ويربو فيها الصغير، ويتخذها الناس سنة، فإذا غيرت قالوا غيرت السنة، قالوا:"ومتى ذلك يا أبا عبدالرحمن؟ ". قال: " إذا كثرت قراؤكم، وقلت فقهاؤكم، وكثرت أمراؤكم وقلت أمناؤكم، والتمست الدنيا بعمل الآخرة ".
وكأنهم كانوا يسمونهم قراء لمعنى عميق.
ولاحول ولاقوة الا بالله
¥